يوم أصبحت رقما
غريب شعور التحول إلى رقم، إلى جزء من إحصائية لطالما استشعرت بعدها عن واقعك وآمنت بتحصنك من الوقوع بين قوائمها. نحن البشر غريبون من حيث كيفية خداعنا لأنفسنا، من حيث قدرة عقولنا على تصوير الأمان والحماية الوهمية للذات.
هذه الأشياء لا تحدث لنا، هي دوما تحدث للآخر، الحروب دوما تقع عند “الآخرين”، التشرد دوما يضرب “الآخرين”، الأمراض العضال دوما تصيب “الآخرين”، الفقد دوما يحيق “بالآخرين”، فلا نستوعب أننا كلنا من ذات العجينة القابلة للتشرد والمرض والفقد والوقوع في الحرب، أننا قريبون جدا من أن نكون هؤلاء “الآخرين” الذين يستعصي علينا أن نتخيل أنفسنا منهم ويصعب علينا أن نتصور معايشة ظروفهم.
وهل أغرب وأوقع من حقيقة أننا كلنا نولد مُسَلّمين جينيا لموت محقق، إلا أن أحد منا لا يستطيع تخيل فنائه هذا ولا يمكنه تصور وقوعه فيه؟ هل أعجب من شعورنا القوي بالحصانة ضد الموت رغم شهودنا لأفواج منا تغادرنا إليه؟
وعلى الرغم من أن تاريخ البشرية مليء بحكايات الكوارث الطبيعية والوبائية التي هددت البشرية بمجملها، وعلى الرغم من أن السينما الحديثة قد امتلأت بالقصص المصورة لفكرة احتمالية فناء البشرية بصور مختلفة، لا تزال احتمالية فناء جنسنا تبدو لنا فكرة غاية في الخيالية، غائرة في ماض سحيق أو مستقبل بعيد، أما نحن، فلا يمكن أن يحدث ذلك لنا.
إنه رفض جمعي لقدر محقق، إيهام تكالبي منا جميعا بقوتنا وصمودنا واستمرار جنسنا رغم مروره بوقائع قربته من الفناء في الماضي، ورغم أنه لا يزال يصور هذا الفناء في فنونه وكتاباته بعصابية في الحاضر، محذرا منه، مشيرا إلى اقترابه، محللا ومفسرا إمكانية وقوعه. شهدنا الماضي وتنبأنا بالمستقبل، ولا نزال نتصور الفكرة هي كذلك، مجرد فكرة لا يمكن أن تحدث لنا، ستحدث “للآخرين”، هناك، في مستقبل ما سحيق البعد.
وهكذا كنت أتعامل أنا مع فيروس كورونا، هو يصيب “الآخرين” لا أنا أو عائلتي. هو خبر أقرأه على موقع تويتر ورقم أتعرف عليه في إحصائية وكارثة بيئية واقتصادية واجتماعية تحميني منها شاشات التلفون والتلفزيون والكمبيوتر إبان اطلاعي على أخبار وقائعها، أما في محيطي، فلا مكان له، فكوفيد 19 هو خبر أسمعه لا واقع أعيشه.
استمر ذلك إلى يوم الخميس الماضي الساعة 3:15 فجرا حين وصلت رسالة إلى تلفوني تقول: النتيجة إيجابية. أول ما خطر على بالي هو حقيقة أن الأرقام التي ستعلنها وزارة الصحة ليوم غد سأكون أنا أحد مكوناتها. كان الشعور غريب، أنا الاستثناء الكريه، الرقم الذي لا يريد أحد أن يكونه، الخطر الذي يتجنبه الناس. أنا من يلبسون ضده الكمامات، ويعقمون بسببه الأيادي، ويغلقون على إثره مدنا بأكملها، ويوقفون لتبعات حضوره المطارات وكل حركات المواصلات. أنا من يتفادون التقبيل والعناق لوجوده، من يتجنبون الزيارات ليتجنبونه، من يتباعدون الأمتار وقاية منه. أنا حاضنة للخطر الذي يتهدد البشرية بأكملها اليوم. لا زلت لا أعرف كيف أتعامل مع هذه الفكرة أو مع المشاعر التي تتولد على إثرها.
يطل عليّ زوجي بين الحين والآخر في محبسي بكمامته، يقف متباعدا تماما، أغطي أنا وجهي. تخنقني عبرات الشوق والحاجة للإحساس بملمس يده، ترى هل سأتمكن من احتضانه مجددا قريبا أم أن شعوري بخرابي الداخلي سيحيل هذه الرغبة مستحيلة؟ حين زارني اليوم في غرفتي طلب مني مناولته كيسا بجانبي، ما استطعت، كرر طلبه فتصلبت يدي وتكور كفي على الكيس وكأن إنقاذ بيتي كله قد تركز في هذه اللحظة، طمأنني أنه سيرميه مباشرة ويعقم يديه وقال أشياء لم أسمعها وابتسم ابتسامة لم أفهمها، دار رأسي ونشف حلقي وفجأة وجدتني أنفجر في نحيب طويل. تمسك فكرة عطبي بخناقي، كأنني سأكون مصدر تهديد طوال العمر. غريبة التجربة جدا وغريبة كل تبعاتها.
تصل صواني الأكل الدافئ اللذيذ إلى طرف سريري، توقظني روائحها فينتعش بعض روحي وتتسع عيناي اللتان طوقهما السواد والتجاعيد، هل كانت كل هذه الخطوط موجودة أم هو الوهن رسمها مؤقتا؟ أمد يدي للحساء لأتناوله دون أي تهذيب، أصدر أصوات رشف عالية وأنين خفيف بعد كل رشفة، من حقي، أنا مريضة. هو البؤس المحقق أن يكون لي سقف فوق رأسي، طعام دافئ على سريري، أحبة يحيطونني، ووقت لأستريح ولأتفكر ولأفلسف المعنى الوجودي لحياة هاجمها الوباء ولأكتب مقالا عن كل ذلك، ثم أستشعر أي مقدار من الشفقة تجاه نفسي.
كل ما يمر به ملايين البشر حول العالم على إثر الإصابة بهذا الوباء من جوع وتشرد وآلام وحرمان حتى من أرخص قرص دوائي مسكن، ولا زالت نفسي تنحو للأسف على نفسها. رغم كل ما أقوله وأكتبه عن نمنمتنا الوجودية، عن عبثية الحياة، وعن الضآلة اللامتناهية لكل مهم في حياتنا، عند التجربة الحقيقية، أدور بسذاجة في فلك نفسي، أي كائنات غريبة مهلوسة هي نحن؟
التحسن بطيء لكنه مستمر. أكثر الأعراض إيلاما هي شعوري بتكسر كل عظمة في جسدي، كأنني ارتطمت بأرض صخرية سقوطا من جبل شاهق بعد أن تدحرجت على ضفافه الحادة مئات المرات. آلام مفاجئة في زوايا غريبة من جسدي عرفتني على البعض منه لأول مرة، منطقة أسفل ذراعي ما فكرت فيها في يوم، بقعة فوق موقع الكلى من جانب ظهري ما فكرت في الالتفات لها من قبل، كلها أعلنت وجودها بنبز حاد وكأنها تدق مسامير إعلانها من داخل جسدي لخارجه.
اكتشفت كذلك شكل مسار أنفي على إثر إدخال القطنة الطويلة في أعماقه لإجراء فحص فيروس كورونا، وتثبت تماما من تفاصيل الحنجرة والبلعوم وأنا أستشعر أجزائهما تصدح بالآلام والآهات. دوار وغثيان وثقل في الأنفاس، كلها علمتني أن التواضع للأقدار مستحق وأن إمكانية الفناء التي لطالما تفلسفت كتابة حولها هي أكثر من مجرد كلمات، هي حقيقة تحصلت أنا على “بريفيو” [معاينة]منها.
أنا من الأكثر حظا بين الناس في هذه الدنيا بلا شك، تحصلت على فرصة اختبار هذه التجربة مع الاستمرار في التعامل معها كتجربة، أكتب عنها، أقوي جسدي بها، أتفلسف من خلالها. هناك من يختبرون هذه التجربة لتتحول حيواتهم إلى مسارات حادة، فيفقد هؤلاء في أهون الظروف أموالهم أو صحتهم أو وظائفهم أو أمنهم واستقرارهم وفي أسوئها أرواحهم، ليمر عليهم كورونا مرور اللئام، فيحيلهم منكوبين معدمين. هذا في الواقع مصير الأغلبية من البشر، مما يوجب على الأقلية منا الأوفر حظا أن يفعلوا شيئا، أن يقدموا إضافة عوضا عن كونهم عبء ثقيل مستمر تحمله ظهور الأقل حظا في هذه الحياة. معادلات كثيرة يجب أن تتغير قبل أن تضربنا النكبة القادمة، وهي قادمة بلا شك، كيف نبدأ؟