يا يوسف
كتبت على “تويتر” أتمنى ليوسف أن يجد نصف روحه الذي سيمده بالسعادة لآخر الدنيا، رد عليّ يوسف رداً منطفئاً، يوحي بكفره بفكرة وجود نصف آخر يمشي معه الرحلة إلى حافة العمر. كافر يوسف، مثله مثل كل أبناء وبنات جيله، بالحب، بأنصاف الأرواح، بالقلوب التي تندمل أشواقها على هذا الإنسان، واحد لا غيره يكمل جملك، يقرأ أفكارك، يعرف خبايا قلبك، ويبقى يحبك، من أجل كل هذا وعلى الرغم من كل هذا يبقى يحبك.
اسمع يا يوسف، كان الأربعاء الماضي يوماً طويلاً مليئاً بالعمل، انشغلت فيه بكل شيء عدا أهم شيء. بعد الإفطار طلب مني زوجي أن أسحب علبة من تحت مقعد الصالة، علبة أنيقة تحوي فستاناً حريرياً وردي اللون أعادني إلى سن العشرين، كان ذاك هو هدية عيد زواجنا الثامن والعشرين، عيد زواجنا الذي نسيته أنا. راقت ضحكته وبرقت عيناه: نسيتي ها؟ صارعت أنا وعاندت وأصررت وأرغيت وأزبدت أنني لم أنس، لكنه يعرفني أكثر من نفسي، يعرف أنني نسيت، ويعرف أنني سأعشق الفستان الوردي، ويعرف أنه روح بيتي وأنه يسري في دمي، فحول نسياني إلى ذكرى لطيفة، وقلب ما كان يمكنه أن يوتر يومي إلى قصة حب وفكاهة، يتندر هو والأولاد حولها ويحبونني جميعاً بسببها، فهذه أنا بانشغالاتي، وهذا هو بمغفرته ومحبته التي لا ينتظر في مقابلها شيئا.
ما بالكم يا يوسف، أنت وأبناء وبنات جيلك وقد فقدتم إيمانكم بهذا التلاقي، هذه الرابطة التي تربط على روحين، يجمعهما في البداية ود وقبول ثم تعجنهما الدنيا وتخلط مشاعرهما الأيام، حتى لا يعود أحدهما يعرف هل هذه أفكاره أم أفكار وليفه، مشاعره أم مشاعر هذا الرابض بجانبه؟ حتى الروائح تختلط والملامح تقترب والحركات تتشابه، وكأنك، بلغة أبناء جيلك، قد وحدت برمجتهما ونسخت مواصفاتهما، حتى باتت النغمة موحدة و”الجهاز” متطابقا، لا فرق سوى ذاك الطفيف في مظهر الشاشة الخارجي. أين هي أحلامكم الوردية الخيالية؟ لماذا أنتم واقعيون أكثر مما تحتمل أعماركم؟ لماذا أنتم عمليون أكثر مما تستوعب أرواحكم الفتية ومشاعركم المتوهجة؟
لست أبيعكم الوهم يا يوسف، ففي الواقع، هذا الواقع الذي لا يفترض أن تستوعبوه في أعماركم أو تقبلوه في توهج شبابكم، لا يوجد داروينياً نصف روح، هذا النصف تصنعه أنت والأيام، حيث تبدأ رحلتك بخفقة، أحياناً رنانة وأحياناً طفيفة، تتنبأ لك بكل ما يمكن أن يكون، ولكي يتحقق هذا الممكن، فلا بد من جهد وعمل، صبر وتضحية وحسن ظن بالآخر وتفهم لاختلافه، تمسك بأهداب العلاقة وتقدير لقيمة المشاعر التي لربما لا تتكرر كثيراً في الحياة، والمغفرة، المغفرة التي هي الدواء لكل داء في العلاقة. وحين يتقن الطرفان استخدام كل هذه الأدوات، تبدأ الرحلة الخلابة، ويهبط الرضا غيمة حنونا تظلل قلبيكما، وتبرق سماء حياتكما مشاعر محبة وأشواق لا تنطفئ، ويتحول بيتكما إلى ملجأ آمن من كل عواصف وأعاصير الدنيا.
لا تفقدوا الأمل في هذا الأمل يا يوسف، هو ما يبقي على إنسانية مشاعرنا، هو ما يبقي على رغبتنا في الحياة، أن نجد هذا الوليف وأن نعيش معه لنسعده ونسعد به. لا تسمعوا لمن يقول لكم إن لهذه الألفة ولهذه العشرة شكلا واحدا، نمطا مفردا مقبولا، إنما هذه العلاقة ذات أشكال وأنواع، تشكلانها سوياً وتنجحان في الاستمتاع بها إذا ما صمَمْتُما آذانكما عن نقد الناس وقبلتما اختلافاتكما وحررتما بعضكما من كل الشكليات ومن كل التقليدي المقبول والمرفوض، وأبقيتما على هدف واحد: إسعاد بعضكما وإسعاد نفسيكما، فالرغبة في إسعاد النفس مهمة جداً، لا يمكنك أن تكون إنساناً مع الآخرين إلا إذا كنت إنساناً رحيماً مع نفسك أولاً.
أنا لا أعرف ما يراه هذا الرجل فيّ يا يوسف، لكنه ها هنا، رحمة من الخالق ورضا، يغفر حين يقسو الآخرون، يربض حين ينفضون، يقف أمامي حين يتقاذفني الحصى ويقف خلفي حين تشتد الرياح، حاضر في أفكاري، في فرحي وحزني، هو دائماً طرف في كل شيء، في كل فكرة أو شعور. تشابكت أيامنا الآن، فلم نعد نعرف ما يملكه وما أملك، نتقاسم كل الأشياء، حتى الأفراح والأحزان والأشواق، نعرف إيقاع بعضنا، وقع خطونا ينبئ بأحدنا قادم، أحدنا مغادر، أحدنا متسلل للمطبخ في الجزء الأخير من الليل. لسنا في ذلك متميزين، غيرنا من الملايين المتوالفين، يعيشون بأنماط وأشكال وعلاقات مختلفة، لكن أرواحهم تلاقت كما تلاقت روحانا، حياتهم تشابكت، أشكالهم تشابهت، أصواتهم توحدت، وقلوبهم انتظم خفقها. كل هؤلاء أنتم لا ترونهم، لربما لأن الحب خافت والغضب زاعق، لأن الكارهين واضحون والمحبين في أعشاشهم مختبئون ينعمون. كل هؤلاء المحبين غلبتهم ثلة الكارهين وسلبت من قلوبكم الأمل والإيمان، فهل تستسلمون؟
لا تفقدوا هذه الرغبة يا يوسف، إنها ما تجعلنا بشرا، ما تصبغنا بالإنسانية. وليفك موجود بكل تأكيد، أتعرف لماذا؟ لأنه سيكون من صنعك وأنت من صنعه، إذا أردته فسيأتي، سيبدأ معك الحياة من أولها ويراقصك أيامك إلى آخرها، عسى آخرها يكون بعيدا وزمنها يكون مديدا.