يا نصيب
بين الآلام كنت أتنقل لأكتب عن أحدها، هل أكتب عن محاضرة “الباوربوينت” للسيد صالح الفضالة بالصور والأرقام المدسوسة فيها إمعاناً في تهميش من كسرتهم الدنيا وجار عليهم القدر؟ أم أكتب عن الحوارات التي باتت تدنس قاعة عبدالله السالم بتلوث صراخ أصحابها وشتائمهم وتدني أساليبهم؟ أم أكتب عن النائبة التي حملت على عاتقها مهمة “تحجيم” المقيمين، فتصدرت خط الهجوم الأول بأسلحتها الخطابية المهيجة للعنصريات والمثيرة للأنانيات، مدركة تماماً كيف تصل لأكثر المشاعر بدائية في نفوس جموع تعبت من فساد حكومتها، فتجاوبت مع كل من يأتي بكبش يفتدي الحكومة وعثراتها الفاحشة؟ أأكتب عن صالح الفضالة وهو يرفع صوتاً ناقماً تغنى ذات زمن ولى بحقوق البدون الإنسانية؟ أم أكتب عن صفاء الهاشم وهي تقول في عارض تصريحها حول المقيمين للقبس “هل بوبلاش متعة؟” في منافسة شديدة على الرداءة بين المعنى والأسلوب؟
وفيما أتنقل بين الآلام انتقاءً لأقساها ظهرت هي على الشاشة بقميصها الملون وغطاء رأسها الرمادي وأصابع يدها المتعلقة بشباك منزل “سيدتها”، ظهرت بصرختها الحارقة وبصوت ارتطام جسدها المعذب، ظهرت مختصرة كل ما أريد أن أقول، كل التنظير والتحليل، كل معنى لما يفعله رئيس الجهاز المركزي وكل نتيجة لما تقوله نائبة البرلمان، ظهرت بفزعها الذي ارتد ناراً حارقة في السؤال المحتوم: ما الذي يحدث لنا، وما الذي نفعله نحن بغيرنا؟ يقولون هي محاولة انتحار، وهل من يحاول الانتحار يترجى المساعدة؟ وإن كانت محاولة انتحار، فهل ردة فعل السيدة المصورة طبيعي؟ إنسان يتدلى أمامك من الشباك، سواء بإرادته أو دونها، وأول ما يخطر ببالك أن تسحب تلفونك فتصور ناعتاً إياه بالمجنون دون أن تدفعك غريزتك الطبيعية أن تمد يداً تقبض بها على يده؟ أي بشر نحن وفي “المركز الإنساني العالمي” نسمع بقصص انتحار عاملينا بشكل مستمر، أي بشر نحن وردّة فعل البعض منا بعد الخبر المرعب هي التشفي في العاملة واستحسان عدم مساعدتها ونعتها وجنسيتها بالمجرمين المستحقين لما يحيق بهم؟ إذا ضاعت عنا حتى غريزة المساعدة البدائية، ومشاعر التعاطف الأساسية، فما بقي لنا بعد ذلك من نفوسنا؟ “هذا الشعب نفسه اللي توه فازع للصومال” كان تعليق صديقي الشاب يوسف المالك، كلمات تركتني منبهرة بحالة الفصام التي نعيشها ونحكي ونتصرف على أساسها.
هل لي أن أدعي أن الخطاب العنصري المستمر منذ سنوات قلائل، والذي تبناه برحابة صدر عدد من نواب مجلس الأمة تجاوباً مع من سيوصلهم للمجلس، هو ما قتل الغريزة الطبيعية عند السيدة صاحبة التصوير وبلّد إحساسها؟ أم هل لي أن أحلل مقتل غريزتها على يدي بيروقراطية وفساد الحكومة أنه هو ما ولد الخطاب العنصري الذي لبد سماء الكويت كلها؟ لربما الربط بعيد وساذج في مباشرته وبساطته، ولكن كلما تردد صوت ارتطام جسد العاملة الإثيوبية في أذني، عادت ذكرى صرختها وملامح وجهها المرتعب لذاكرتي، لا أستطيع سوى أن أقع بنقمتي علينا، على تناقضنا ونفاق ورعنا، على كل دينار ندفعه للجان المساعدة، على كل برامجنا الدينية ولجاننا الخيرية وحملات حجنا السنوية، علينا كلنا بسياراتنا الفارهة، بمناظرنا المرسومة، بعاملاتنا المنكسرات يسرن خلفنا “باليونيفورم” نفرضه عليهن لنمعن في تبيان الفرق، لنحفر أعمق خندق للحياة بيننا وبينهن، أنقم أنا على كل شيء كلما ترددت صرختها في ذهني، كلما تراءى لبسها مهفهفاً أثناء سقطتها في ذاكرتي، فأجدني أفكر: كم هي ساخرة الحياة التي بضربة حظ وجودية جعلت هذه تتدلى برعبها من شباك الأسى، وجعلت الأخرى تقف ببأسها في برلمان “المركز الإنساني” مستخدمة يانصيب الجينات العشوائي لترتفع به وتترفع وتقهر من طاشت ضربته وخسر يانصيبه.
أشاهد الفيديو مرة بعد مرة، يتفتق قلبي بين ضلوعي، لا أملك التوقف وكأنني أعاقب نفسي، أتمعن في الوضع “البلاستيكي” بين السيدة والعاملة، أتخيل تشبث السيدة بتلفونها وأمامها روح تكاد تزهق، أتخيل تشبث العاملة بحافة الشباك الحادة والألم يتسرب إلى الأصابع المعقوفة عليها، أحاول أن أتذكر اليوم، الساعة، السنة التي حولتنا إلى تلفونات مبرمجة معدومة الإنسانية، كل شيء يبدو مضبباً، بداياته بعيدة قاتمة، وتبقى صرختها “امسكيني” تتردد، لترد “هي” عليها “هل بوبلاش متعة؟”.