سيدة كردية سورية خلال إحياء اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة
‘ولا ظل حيطة’
“عزيزي الزوج، إذا علمت أن زوجتك تخونك لا تدعها تعرف بأنك عرفت أبدا، انس الأمر وحاول أن تتعايش معها وعش حياتك، حافظ على بيتك ولا تهدمه بيدك، حاول أن تبدأ من نفسك وراجع ذاتك واعرف سبب تقصيرك الذي دفع بزوجتك للخيانة، قف أمام المرآة وانظر فيها جيدا، خفف من وزنك واتبع رجيما قاسيا، لأن رجلا بكرش يعتبر كارثة. اهتم بمظهرك واحلق لحيتك الطويلة، لا تحاول التجسس عليها والبحث في هاتفها أو أي شيء آخر من هذا القبيل واعتبرها نزوة واحمد ربك أنها لم تطلب منك الطلاق لتتزوج برجل آخر غيرك. هكذا تكون واعيا وتحافظ على بيتك”.
هل شعرت أن هذا الكلام فيه نوع من الجنون والمبالغة ولا تستطيع تقبله؟ هذه هي النصائح التي تقدم للمرأة التي يخونها زوجها حتى تتم تبرئة ساحة الزوج الخائن.
تدور الفقرة أعلاه عبر وسائل التواصل فيم يحتفل العالم باليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة والذي يصادف يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر، لتشير الفقرة على بساطتها إلى حقيقة أن العنف الذي تتعرض له المرأة له أشكال وأنواع وأنماط كثيرا ما تكون بعيدة عن الشكل التقليدي للعنف، أنواع يصعب توصيفها أو جدولتها أو حصرها.
يعرف الإعلان بشأن القضاء على العنف ضد المرأة والصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة العنف ضد المرأة على أنه “أي فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس ويترتب عنه أو يرجح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة”.
ويعدد الموقع الإلكتروني لليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة والخاص بالأمم المتحدة بعض أنواع العنف مثل الضرب، والإساءة النفسية، والاغتصاب، والقتل، والمضايقات الجنسية، والزواج القسري، والملاحقة في الشوارع، والإتجار بالبشر، وتشويه الأعضاء التناسيلة، وزواج الأطفال.
إلا أن ما لا يمكن أن يوضحه موقع أو تبينه دراسة هو المدى الذي يمكن أن تصل إليه الإساءة النفسية بعنف ألفاظها وعمق انغراسها في النفس وثقل تأثيرها على الضمير وفداحة سدها لكل منافذ الحياة على المرأة. هذه الإساءة التي تتكرر، في حياة أغلبية نساء العالم بشكل يومي منمنم؛ في كل حركة؛ في كل لفتة؛ في كل لفظة؛ في كل فكرة؛ وفي كل توقع يأتيه العالم تجاه المرأة؛ حتى تصبح أيام الكثير من النساء عبارة عن سلسلة يومية غير مرئية من التعنيف والتعذيب.
العنف الجسدي وزواج الأطفال وتشويه الأجهزة التناسلية والضرب كلها أشكال “تقليدية” للعنف (على غرابة التعبير)، كلها أنماط يسهل على الأقل تحديدها وتعريفها إلى حد كبير، مما يسهل بدرجة ما مكافحتها، فأول متطلبات التغيير هو وضع تعريف لما ينبغي تغييره ومكافحته مما يسهل تمييزه وصنع سبل مقاومته.
أما الخطاب اليومي الموجه للنساء بكل إساءاته النفسية الصغيرة المتناثرة، هذه الإساءات التي تخرج أحيانا كثيرة من أفواه النساء ذاتهن في تعبير غريب عن سادية فادحة خلقها وغرسها فينا المجتمع كأسلوب استمرار للحياة، فتلك يصعب جدا تعريفها وتأطيرها.
ترتبط هذه الإساءات النفسية بإساءات أشد وضوحا، ذات أبعاد اجتماعية وتفسيرات دينية تضع المرأة دائما في الموقف الأضعف والأقل حيلة. تؤسس قوانين الأحوال الشخصية، والتي تضع كامل القوة الأسرية في يد الرجل من حيث حقوق الطلاق، والحضانة، والميراث وغيرها، لموقع ضعيف متخاذل للمرأة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، مما يحول الرجل إلى مصدر ليس فقط للسند والحماية بل للهوية كذلك في المجتمع (الكثير من القوانين حول العالم العربي الإسلامي لا تعتد بالأسرة مثلا دون وجود ذكر فيها). هذه الحالة المستمرة من الحاجة “لظل راجل” تخلق انكسارا نفسيا مبهرا عند المرأة، انكسار يصنع منها إنسانا ضعيفا حزينا خائفا متزلفا، يلف ويدور طوال الوقت ليحمي نفسه وبعض من حقوقه.
لن يعرف الرجل في مجتمعاتنا تحديدا في يوم ما طعم هذا الانكسار؛ مرار الاضطرار إلى نصح بني جنسك بالمزيد من الذل والهوان؛ ألم الاعتراف بضعف وقلة حيلة لا علاج لهما سوى بالصبر والتحمل وبلع الإهانة. لن يعرف رجل في يوم معنى التوقع المجتمعي لأن يصبر على الخيانة؛ لأن يمثل السعادة؛ لأن يتصرف بانكسار؛ لأن يتشارك وغيره في وليفته؛ لأن يلف ويدور ويناور ويحاور؛ لأن يستخدم جسده ومظهره لكي يحتفظ بشريكته ولكي يستطيع أن يستمر في حياة على درجة من الأمان والاستقرار.
لن يعرف رجل في يوم أثر النصح اللزج الوارد بداية المقال، لا على الناصحة ولا على المنصوحة. لن يستشعر في يوم سمومية هذه الدائرة المغلقة ولا حزن وتعاسة كل من هن في داخلها. هذا الغياب التام لمعرفة هذا النوع من العنف ضد النساء وبالتالي لتعريفه وتأطيره، هذا الوجود القاس للتقاليد المجتمعية والقراءات الدينية التي تؤيد هذا العنف وتسنده وتحميه، تجعل من الصراع مع هذا النوع من العنف هو الأقوى والأشد ضراوة.
بالطبع، لا أقلل من أهمية بل وأولوية السعي للقضاء على أنواع العنف البينة والمذكورة أعلاه في المقال، إنما أشير ببساطة لهذا النوع اليومي المتوحش العصي على الفهم والتعريف والتمييز، هذا النوع الأسيدي الذي يذوب الروح والنفس يوما بعد يوم، هذا النوع الخفي كالسم المدسوس في الأكل، يؤلم بشراهة ويقتل ببطء. نستذكر هذه الآلام الخفية في اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة ونتمنى أن تجد الإنسانية سريعا العقاقير الأخلاقية اللازمة لها.