«هي أشياء لا تشترى»*
كنت أستمع قبل أيام لمحاضرة مسجلة حول تاريخ الدخول في الإسلام، تحديداً في زمن النبي وما بعد زمن النبي بفترة قصيرة، حيث تكلم المحاضر عن فكرة الدخول الجمعي في الدين الإسلامي وعن دلالات هذا الفعل من حيث حقيقية إيمان هذه الجموع أو ثبات قناعاتهم بالدين الجديد آنذاك. بكل تأكيد، فإن الطبيعة التبشيرية للدينين الإسلامي والمسيحي وما يتبع هذه الطبيعة من ضرورة الحث والدفع بدخول الناس للدينين، أحياناً سلمياً وأحايين بالفرض الحربي أو التعجيز المادي، مثلما نتج عن عملية فرض الجزية، تجعل من السؤال حول الإخلاص النفسي والقناعة الثيولوجية للدينين سؤالاً مهماً مستحقاً.
وموضوع الإخلاص والقناعة هو موضوع حساس، ذلك أنه ليس فقط موضع دراسة بالنسبة للداخلين الجدد في الأديان، وإنما كذلك لمن هم «ولدوا» عليها مع غرابة أن تولد مسبقاً على دين معين. تقول الأرقام العالمية إن أكثر الأديان انتشاراً هو الدين المسيحي، أي أن أعلى نسبة دينية بين البشر هي للمسيحيين، إلا أن أسرع الأديان انتشاراً هو الدين الإسلامي، أي أن أسرع ارتفاع في الأرقام هو لصالح المسلمين. يبقى أن «الشيطان» في التفاصيل، ذلك أن ارتفاع أعداد المسيحيين في العالم، في الزمن الحديث، يعود لأسباب استعمارية وتبشيرية، فيما ارتفاع سرعة انتشار الدين الإسلامي يعود لارتفاع نسبة المواليد بين المسلمين، ذلك أن نسب الإنجاب مرتفعة للأسرة الواحدة، أي أن معدل عدد الأطفال في الأسرة الواحدة أكبر من نظرائها في كل العالم، كما أن تعدد الزوجات يساعد كذلك على تضخم الأعداد وزيادة أعداد «الأطفال المسلمين» إذا ما اعتبرنا أن تعدد زواجات الرجل يعدد كذلك الأسر التي يكونها.
ويبقى أن نتساءل: لماذا هو مهم ومفصلي أن نفكر في قيمة الإخلاص الديني للداخلين في الدين؛ طبيعياً بالولادة، أو حربياً بالغزو، أو تبشيرياً بالوعظ أو المساعدات المادية، سواء تاريخياً أو في الزمن الحالي؟ أتصور أن الإجابة على هذا السؤال ستقدم ليس فقط منظوراً مختلفاً لطبيعة وطريقة انتشار الأديان التبشيرية، ولكن كذلك للمشاكل التي تعانيها هذه الأديان حالياً ولطريقة التعامل معها ومحاولة إيجاد حلول لها. لا تتعامل الديانة اليهودية، على سبيل المثال، من مشاكل من نوعية ما يعانيه الإسلام والمسيحية، وإن كانت تعاني من كثير غيرها، ذلك أنها في عمقها ليست ديانة تبشيرية، وهي لا تسعى لضم الآخرين لصفوفها، بل إنها تنفر في الواقع من محاولات الآخرين الدخول فيها، حيث يمر الأشخاص الراغبون في التحول لليهودية بعملية معقدة وطويلة وبعدد من الاختبارات الشائكة قبل أن يستطيعوا الانضمام للديانة. ورغم ذلك، يبقى هناك شعور تجاههم بأنهم دخلاء، غير خالصي اليهودية. واليهودية دين وعرق في الوقت ذاته، فالطريق الأول لانتشارها هو عبر رابط الدم، وهو رابط للأم فقط لا الأب، أي أن الأم اليهودية هي من تورث دينها لأبنائها. وعليه، يتكلم اليهود عن دينهم على أنه دين وتصنيف إثني، فيمكن جداً أن تسمع أحدهم يقول إنه يهودي لاديني على سبيل المثال، ذلك أن اليهودية بالنسبة له تمثل تصنيف عرق ودم، كما هي تمثل ديناً وطريق عبادة.
مشاكل اليهودية بعرقيتها وانعزالها وانكفائها عن بقية العالم لا تعد ولا تحصى، إلا أن القائمين عليها أذكياء، يحسنون التعامل مع المزايا كما المشاكل، ويعرفون كيف يستفيدون من كل جوانب ديانتهم المستغربة على بقية العالم. المسيحيون يتعلمون بسرعة، وجزء كبير من العالم المسيحي يخرج اليوم من هوس الدفاع عن الدين إلى الاستمتاع النفسي به وخلق منظومة جماعية من خلاله، تحميه وتكفيه نفسياً واجتماعياً. أما المسلمون فلا يزالون يدورون في ذات الدوائر القديمة، لا يزالون يسعون للتوسع من خلال التبشير القديم، لا يزالون يفاخرون بانضمام الضعفاء والفقراء للدين، من خلال محاولات أسلمة العمالة الفقيرة في الدول العربية الغنية، رغم وضوح دوافع هؤلاء للانضمام للدين، لا يزالون يعتقدون أن في سرعة ارتفاع أعداد المسلمين مؤشر، وهو فعلاً مؤشر، مؤشر على استمرار الفكرة القديمة بالعزوة القائمة على ارتفاع عدد الأبناء وبأن رزقهم قادم معهم رغم أنه لا يأتي واقعياً، ورغم أن هذه المعتقدات تجعل من المجتمعات المسلمة المجتمعات الأكثر فقراً وجهلاً في الكثير من دول العالم.
هي مشكلتنا المستمرة، المواجهة مع النفس والقراءة الحقيقية للتاريخ والتقييم الواقعي للزمن الحالي وأحوال الدين وتطبيقه فيه. كيف ولماذا ارتفعت نسب المسلمين في الدول الشرق أوسطية تاريخياً؟ ما هي دلالات هذا الارتفاع الجمعي السريع وما أثره، حتى بعد مرور ألف وأكثر سنة، على البشر المنحدرين من هذه الجموع التي أضحت مسلمة بين ليلة وضحاها، فنامت على دين ما وأصبحت على دين الإسلام؟ ما القيمة الفكرية و»الإخلاصية» المضافة من «إغراء» الفقراء الممارس حالياً للانضمام إلى الدين بمكافآت مالية؟ ما أثر إغلاق باب الخروج من الدين، وإبقاء من وُلد عليه أو قرر الدخول فيه قسراً وعدم السماح له بالمغادرة إن تبدلت القناعات وتغيرت المفاهيم؟ أي معنى لكل ذلك وأي أثر؟ في الإجابات الكثير من الحلول، لو كنا نجرؤ ونستطيع.
*بيت شعر للعظيم أمل دنقل