هو كذلك
نحن نحب العلب، لا بل نحن نحتاجها، نحتاج أن نرسم خطوط طول وعرض وارتفاع ونحبس الناس في محيطها. قبل أيام أقمنا اعتصاماً عنونّاه إنسانياً تضامناً مع الشعب السوري واحتجاجاً على المجازر والتصفيات التي افترشت أرضه بلونها الأحمر القاني. كانت وقفة إنسانية خالصة، ليست سياسية، وليست «حلولية» (للمطالبة بحلول)، وليست «تحليلية» (لتقديم تحليلات)، كانت وقفة تنعى الدماء السورية، دماء الجميع، وترفض الوحشية، وحشية الجميع. اتفقنا أن يكون الطفل السوري هو قلب الوقفة، على اعتباره الضحية الأكبر والأكثر نخراً في ضمائرنا. في وقفتنا نعينا الضحايا، وإن كانوا مع النظام، بكينا الموتى وإن كانوا متطرفين أو حتى داعشيين، فمما لا شك فيه، أن هذه المدن السورية فيها من المدنيين من تعددت آراؤهم بين ولاء أو على الأقل قبول بالنظام، إلى ثوريين رافضين لفاشية النظام، وصولاً الى المتطرفين عنيفي التوجه، وكل هؤلاء لديهم أطفال، لا خيار لهم أو ذنب. المدن المصابة تعج بسوريين من مختلف التوجهات، وقفنا من أجلهم جميعاً، من أجل دماء ما كان يجب أن تسفح على أيدي السفاحين، من أول حليقي الوجه مرتبي الهندام، إلى طويلي الذقن متهدلي الجلباب، دماء استرخصتها كل الأطراف من أول الدول «المتقدمة» التي تطالب بحقوق الإنسان وصولاً إلى الدول الطائفية التي اتخذت من سورية ساحة للعراك، وقفنا ضدهم كلهم ومع السوريين كلهم، دون علب وعناوين.
أتذكر أنني وقفت أنعى ضحايا (11) سبتمبر مثلاً منذ سنوات في أميركا وكانت الدعوة بأن يصلي كل لإلهه من أجل الضحايا وأهلهم، لم يدن أحد الإرهاب الإسلامي أو يشير آخر إلى سوء السياسات الأميركية الخارجية التي أدت إلى تضاعف الإرهاب، وكذا أتذكر الوقفة الإلكترونية من أجل ضحايا إيبدو في فرنسا، لم نصرخ في وجه الإرهاب الإسلامي ولم نحلل الإمدادات الفرنسية التي ساعدت في إنعاش هذا الإرهاب في إقليمنا المنكوب. وقفنا في محطاتنا الإلكترونية بشعار «كلنا إيبدو»، إنسان ينعى إنساناً، بغض النظر عن كل السياسات القميئة المحيطة، طبعاً شاركت في وقفات سياسية سابقة، عند سفارات أو بوجود شعارات أو رسائل سياسية واضحة، لكن الوقفات الإنسانية، بالنسبة إلي شخصياً، أقرب للقلب وأجمع للضمير الإنساني، يجتمع عليها الكل بغض النظر عن اختلافاتهم السياسية وتحليلاتهم المنطقية، ينعى فيها المجتمعون الضحايا، لربما يشعلون لهم شمعة أو يقفون صامتين لأن الصمت في حالات الأسى الجارف أبلغ من الكلام، وهذا ما كنا نريده في يوم الوقفة السورية الأخيرة.
إلا أن غياب العلب أثار النفوس، فنقد البعض الوقفة الصامتة لأنها خلت من إشارة اتهامية مكتوبة للنظام السوري، وكأن الصور التي رفعناها لممارسات النظام البشعة كانت تأييداً له، وكأن هناك حاجة لكلمات مكتوبة تعبر عن مأساة لا تزنها كلمات، ثم نقد طرف آخر نزولنا المعادي للنظام (بدا واضحاً لهذا الطرف أننا نعتصم ضد النظام على ما يبدو) لأنه كما يقول أحدهم تسببنا نحن، بتأييدنا للثورات سابقاً وبعدائنا للنظام السوري حالياً، في إراقة الدماء. يؤكد هذا المغرد أن «ما يجري (هو) صراع سياسي ستصبحون وقوده بهذه الوقفات»، كما أنه حذرني أنه في حال سقوط النظام الذي أعتصم ضده فلن أنام أنا «بأريحية وأمان»، وختمها بجملة تشبه تلك التي للطرف الأول «نحتاج حلا سياسيا يجتث به الإرهاب وليس إلى وقفات يستغلها المتاجرون لأهداف سياسية»، بالنسبة للطرف الثاني الذي يمثله المغرد يكمن الحل السياسي في مساندة النظام السوري في صراعه ضد المعارضة التي حكم أنها كلها إرهابية، وبالنسبة إلى الطرف الأول الحل السياسي يكمن في مساندة ولربما تسليح المعارضة، التي حكم أنها كلها ديمقراطية حرة، إلى أن يسقط النظام.
أغضبت الوقفة الطرفين، فنحن مع النظام لأننا استعرضنا جرائمه بالصور دون الكلمات، ولأننا طالبنا بايقاف الحرب فوراً دون قيد أو شرط (وهو مطلب المعارضة في الواقع التي تطالب بهدنة ممتدة حالياً)، ونحن مع المعارضة لأننا حملنا صوراً تستعرض بشاعة القصف السوري النظامي الأخير، ولم نشر بوضوح إلى إرهابية بعض الفصائل المعارضة، نحن لم نخرج معلبين في أبعاد واضحة، نحن خرجنا بما بدا هلامياً لهؤلاء السياسيين المحفورين في أعماقنا. لم يكن مقبولاً أننا ضد فاشية النظام وضد إرهاب فصائل المعارضة، كان لابد لنا أن نتخذ طرفاً. و في حين أنني أتعاطف حقيقة مع التوجه الديني للثوار، فالإنسان المقموع عادة ما يضطر إلى الاحتماء بدينه وبناء مصد من عباداته وعقائده، إلا أن ذلك لا ينفي طائفية بعض الثوار المتطرفين ومسؤوليتهم عن الأحداث الدموية وإن كانوا، لدرجة بعيدة، صنيعة النظام. سورية حلبة صراع اليوم، مثلثات شر قميئة تلقم النار المشتعلة حطباً وفحماً، والسوريون بين مطارق وسندانات عديدة، أكثرها وطأة في رأيي هي مطرقة النظام الوحشي، التي لن يستتب الأمن في سورية، دون خلع رأسها وإزالتها، ومن ثم وضع سورية تحت رقابة دولية تحميها من متطرفيها وتمنع تحولها إلى عراق آخر. ليس هناك حلول كثيرة أخرى تبتعد عن هذين الخيارين.
الظريف أن صديقة لي حادثتني «ها، يقولون إنك أصبحت حكومية، هل خلعت ثوب المعارضة؟» فسألت «ومن أين أتى هذا الاعتقاد؟» قالت «خرجت ضد النظام السوري، والحكومة ضد النظام السوري، يعني أنت والحكومة أصحاب». فضحكت حتى تبدت كل تجاعيدي الجديدة بوضوح تام وقلت لها «نعم، هو كذلك».