هومو القتل
يقول العلماء إن الجنس البشري الحديث لم يخلف جنساً آخر يقترب من جنسه أتى بالاتصال معه دون أن يقضي عليه غالباً وينهي وجوده، يحكي الكاتب كارل زيمر مثالاً على ذلك فيقول: نحن لا نعرف تحديداً ما تسبب في انقراض فصيل الهومو فلوريسينسيس، الذي اكتُشفت بقاياه على جزيرة فلورز الإندونيسية، والذي لربما كان من أبناء العمومة البعيدين لبني البشر، حيث لا يزال الصراع العلمي على نوع الفصيل قائماً إلى اليوم. لربما جاء الانقراض بسبب انفجار بركاني أو بسبب احتكاك مع الهومو سيبيان، الفصيل البشري، حيث غالباً ما قضى الأخيرون بتطورهم العقلي على أبناء عمومتهم أصحاب الأمخاخ الصغيرة من الهومو فلوريسينسيس والتي لا تتعدى حجم مخ الشمبانزي.
يقول زيمر إن الهومو سيبيان قد قضوا في الغالب على النياندرثل كذلك، كما أن الهومو إيراكتوس لم يستطيعوا الاستمرار في الحياة إذا ما اقتربوا من الهومو سيبيان. هذا الفصيل البشري، الهومو سيبيان، الذي ينحدر منه الإنسان الحديث هو آخر ما تبقى من الهومونويد بعد أن قضى على كل من اتصل أو تجاور معه. يبدو أن السبب في هذا القتل الممنهج هو التطور العقلي العظيم لهذا المخلوق الذي لا يزال العلماء يختلفون حول تاريخ وسرعة حدوثه كذلك، ما إذا حدث هذا التطور بطفرة جينية مفاجئة أو بتسلسل زمني طويل. يؤرخ العلماء لطفرة تكنولوجية منذ 50 ألف سنة مضت جعلتهم في حيرة حول ما إذا كان مسببها طفرة جينية أم أن اكتشافهم لزمن هذه الطفرة التكنولوجية تنقصه حلقات زمنية سابقة تُدَرّج هذا التطور. السر كله يكمن في العقل البشري، وبعض الأجوبة، التي لا يزال العلماء متفائلين بالحصول على المزيد منها، لربما لن تحضرنا أبداً لاختفاء حاوياتها الجينية والأحفورية إلى الأبد.
المهم أننا ننحدر من جنس قاتل، أجدادنا أعملوا في بقية المخلوقات قتلاً تنافساً على المكان الآمن والمصادر الطبيعية، وبعد ثلاثمئة ألف سنة أو تزيد تغير كل شيء، تغيرت مراكز القوى التي أصبحت في يد الجنس البشري وحده، تغير العقل البشري، وتغير مفهوم الإنسان، وتغيرت معايير الحقوق، إلا أداة القتل المزروعة في العقل البشري، تلك، يا حفيظ، لم يمسسها تطور ولم يغير من عنفها تطور جيني داخلي ولا تأثير طبيعي خارجي.
مازلنا نقتل من أجل المصادر الطبيعية، وما زلنا نتذابح من أجل المكان، ثم زدنا على ذلك أن أصبحنا نتقاتل من أجل الأفكار، ثم من أجل «الحقيقة»، ثم من أجل الآلهة، ثم من أجل الإله الواحد، ثم من أجل الطريقة التي نتعبد بها الإله الواحد، وقريباً سنتقاتل من أجل سحب النفس وغمضة العين، ولن نألو سبيلاً للقتل إلا سلكناه، ولن ندخر جهداً لإراقة الدماء إلا بذلناه. وسنبهرج قتلنا بأوصاف جميلة كما أميركا بمكافحتها للإرهاب، وكما دولنا العربية والإسلامية بإعداماتها المرموقة الجماعية دفاعاً عن الدين ودرءاً للفتنة. ولم نذهب بعيداً؟ نقتل أطفال سورية ونسميه لجوءاً غير شرعي، نقتل أطفال الصومال ونسميه مجاعة، نقتل أطفال اليمن ونسميه جهاداً، نقتل ونقتل، نمسح الدماء، نلف الأجساد في شريطة جميلة ونضع عليها «كرتاً» أنيقا يحمل كلمات منمقة تجعل من العنف فضيلة، ومن الحقد محبة، ومن القتل رحمة. نحن، بني البشر، كما نحن منذ ثلاثمئة ألف سنة، لم يتغير شيء من همجيتنا إلا اسمها، تتربى في عزنا.