هنا وهناك
نميل نحن البشر كثيراً إلى المقارنة الأنانية الظالمة، فإذا ما تحدث أحدهم حول قضية قارناها بمئات القضايا الأخرى التي تهمنا، والتي لم يأت المتحدث على ذكرها، وإذا ما امتدح أحدهم موقفاً قارناه بمئات المواقف المؤسفة الأخرى التي تثبط مديحه، وإذا ما كان هذا المتحدث سياسياً أو صاحب قرار، ترتفع نسبة المقارنة ومعها نسبة التثبيط، وما كل هذه المقدمة سوى رفع عتب واستسباق نقد من حيث إنني سآتي ذات الفعل الأناني الذي افتتح بذكره المقال.
لا أدري إن كان ينبغي أن نكون جميعاً أكثر عدلاً في قراءة معنى قول رئيس مجلس الأمة، والذي جاء فيه ما معناه أننا أفضل من بقية الشعوب بشرعنا وبأعرافنا وبتقاليدنا، والتي يستكملها بقوله “هم سبقونا بشيء واحد فقط في العصر الحديث، إتقان العمل”، خصوصاً أن البلد بأغلبيته العظمى الساحقة تتحدث من ذات المنطلق وبذات المعنى، فليست الجملة جديدة ولا نادرة، الجملة هذه هي في صلب تفسيرنا الديني وثقافتنا الاجتماعية وتعاد بشكل مستمر يكررها أكبرنا كما أصغرنا، وأغنانا كما أفقرنا. ألم تصبح جملة “الله لا يغير علينا” مضرب مثل عندنا؟ ما هو التفسير الشائع للآية التي تقول “خير أمة أخرجت للناس؟” وهل لدينا أكثر من الإشارات الدينية والأقوال الاجتماعية المأثورة التي تحكي عن أفضال العرب وشرف الانتماء إليهم؟
نحن جميعاً (مجازاً لمعظم العظم) نتغنى بالكويت المركز الإنساني حتى والتقارير العالمية الإنسانية، والأرقام الإحصائية تشير إلى تدهور في أوضاع العمالة والمقيمين ومنعدمي الجنسية، منابرنا تصدح كل يوم بالحمد والشكر لأن الله أعزنا بدين معين لم نقم حتى بفضيلة اختياره، أصواتنا الشعبية والحكومية والنيابية تشيد كل يوم بكفاءة الكويتي المطمورة تحت الأعداد الهائلة من الموظفين غير الكويتيين، حتى أغنياتنا غارقة في نرجسيتها وهي تردد معاني مثل “هذا إهو الكويتي”، إذاً ماذا فرق كلام السيد رئيس مجلس الأمة أعلاه عن بقية ما يردد الشعب وحكومته ونوابه؟ ثم تلت كلمته تلك، الكلمة التي ألقاها في مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي، والتي على الرغم من انفعاليتها وتغطيتها على موقف الوفد الفلسطيني، فإنها كانت مستحقة في إتيانها على الجرح، ويا ليتها كانت استمرت دقيقتين أو ثلاثا زيادة لتؤكد على جرائم الحرب التي يقوم بها النظام الإسرائيلي من إبادة للفلسطينيين إلى تمدد مستعمراته على أرضهم، إلى عنف جنوده وإهاناتهم المستمرة لأهل البلد عابري النقاط الحدودية، فالمشاعر الانفعالية الجياشة تلفت نظر العامة، أما المواجهة بالحقائق والوقائع فهي تحرج المجتمع الدولي وتؤثر في قرارات الدول وتحدث التغيير المطلوب.
ومع أنني أعرف أن الكلمة الأولى معتادة، وهي في صلب تفكير الإنسان العربي المسلم ومشاعره من حيث أفضليته العرقية وسموه الديني، ومع أنني أؤمن أن الكلمة الثانية مستحقة، حيث لا قضية يمكن أن تقارن في عذاباتها وظلم وقائعها وطول مدتها مع القضية الفلسطينية، إلا أنني لم أملك إلا أن أقارن بين أفضليتنا العربية الإسلامية مع أنظمتنا الدكتاتورية، تدهورنا الإحصائي في مجالات حقوق الإنسان والحريات، وتمسكنا المذهل بالمفاهيم الطبقية والعرقية والأبوية حتى في إدارتنا للبلد وشؤونه الداخلية والخارجية، كما لم أملك إلا أن أقارن بين هذا الحماس العارم للقضية الفلسطينة والذي أراه مستحقا ومستوجبا تماماً، مع فتور الحماس تجاه قضايا ظلم وقمع في عقر دارنا، لا تحتاج سوى جزء يسير من الجهد والوقت لحلها ورفع الظلم والقهر عن أصحابها. أعلم أن القضايا مختلفة والمقارنة لا وجه لها، لكنني بشر، أسمع الكلمات فتتفلتر إلى صور ومعان، القضية الفلسطينية في دمي منذ وعيت على الحياة، والقضايا الإنسانية الداخلية في عقلي وضميري منذ وعيت على الوضع الداخلي، لا أدري كيف أفصل الأحزان وأفلتر الآلام وأقيم المظالم من أشدها إلى أقلها. هل يمكن للظلم أن يأخذ درجات؟ هل يمكن لقمع أن يأخذ دورا خلفيا لقمع أشد منه؟ لا أعرف كيف أفعل ذلك أو أشعره، كل ما أعرفه هو أن القلب الذي يأسى لفحش الظلم هناك لا يمكنه أن يتجاهل أسى الظلم هنا، وإذا كان يمكن تحرير الهنا، فلنفعل حتى تخلو ضمائرنا للهناك.