«هل تريد شيئاً؟»
الكل هذه الأيام يبحث عن لب المشكلة، لمَ نحن كما نحن؟ من أين تسللت الطائفية والتطرف والانغلاق؟ كيف ومتى سيطرت الخرافة؟ ولأي الأسباب نعود نحن بسعي حثيث إلى العصور الوسطى والمظلمة عندما كان الناس يتقاتلون من أجل الطوائف ويحتمون بالتعويذات ويتداولون الخرافة كحقيقة واقعة؟ من لديه صغار في المراحل الابتدائية إلى الثانوية، سيتعرف حتماً على أحد أخطر منابع المشكلة، فهو مبتلى باختبار قاس في ضبط النفس بينما يمارس الكذب المباشر أو تداول معلومة خارج نطاق العصر والمنطق مع الصغار.
للأسف الشديد، الأمثلة متعددة تمتلئ بها الكتب التعليمية، فمن منهجية حياتية متطرفة تقدم لهم في مقررات التربية الإسلامية حول الملبس والمظهر والتصرف، إلى قصص تاريخية ليس لها تبرير مفهوم في العصر الحالي في عقول الصغار، وصولاً إلى الخرافة البحتة التي تقدم لهم كحقائق واقعة.
في منهج التربية الإسلامية للصف التاسع، كان علي أن أدرس ابنتي أن اللباس الصحيح للرجل مثلاً هو ما يرتفع عن الكعبين، وأن للرجل ملبسا خاصا به لأن الله تعالى خصه «بتركيب عضوي مميز يجعله أهلاً لأداء كل ما يتطلب إثبات الرجولة وتحمل تبعاتها» (ص 93)، وفي ذات الكتاب، كان لزاماً أن أقول لها إن زيارات جدتي لقبور بعض الأولياء طبقاً لمعتقدها ما هي إلا اتخاذ لهذه القبور «أوثاناً» وهو «قول المشركين» (ص 23)، وفي ذات المنهج كان يجب أن أشرح لها أن «مذهب السلف وسط بين المعطلة والمشبهة فهم تجنبوا التعطيل في مقام تنزيه الرب جل وعلا، وتجنبوا التشبيه في مقام الإثبات» (ص31)، و»اللي فاهم يشرح لي جزاكم الله عني وعن ابنتي كل خير».
ولابد طبعاً أن أخبر ابنتي أن الخالق معروف «بشدة بطشه وانتقامه من أعدائه» وأحدثها عن «أصناف العذاب في القبر وفي نار جهنم» (ص33)، ثم أعود مرة أخرى إلى تكفير معتقدات الغير، فأقول لها إن «دعاء أهل القبور لرفع الضر وجلب المنافع» يعتبر «من الشرك والكفر» (ص 162)، وفي ذات المنهج، لصغيرة لا تكاد تخطو في عالم الشباب، يجب أن أحكي لها حكاية زيارة الرسول الكريم إلى بيت السيدة حفصة زوجته، والتي استأذنته في زيارة أهلها، فلما أذن لها أرسل يطلب جاريته ماريا القبطية وعاشرها في بيت حفصة، وما ترتب على ذلك من غضب الزوجة ثم انتشار الخبر بين الزوجات وتحريم الرسول الكريم لهن على نفسه، وصولاً إلى نزول الآية الكريمة « يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ»، قصة حول ملك اليمين ومعاشرتهن جسدياً لصغار لم يمررن حتى بالفرشة التاريخية التي تشرح ظروف وملابسات العبودية في ذلك الزمان. أما منهج الصف الحادي عشر فيفرد فصلا كاملا للجنّ ليتعرف الصغار على طبائعهم وتفاصيل حياتهم وتلبسهم بالإنس، أما الدرس المفضل لابنتي لتراجعني فيه صراخاً كل يوم فهو الخاص بالزواج، والذي تتعلم فيه أن الرجل من حقه ضرب زوجته، ولكن دون أن يترك على جسدها أثرا، وأن المرأة التي ُتطلق من زوجها يجب أن تبقى في بيته في وقت العدة، وتتزين له حتى يراجع نفسه ويعيدها إلى عصمته.
آخر عذاباتي كان مع الدرس الأول في كتاب اللغة العربية للصف الثالث الابتدائي والمعنون: «هل تريد شيئاً؟» والذي يحكي قصة «رجل بسيط لم يتعلم العلم الشرعي»، والذي في يوم بعد أن استمع لحديث جميل عن الرسول عليه السلام تحرك قلبه دافعاً به لتعلم العلوم الشرعية والتبحر بها، إلى الآن الأمور طيبة، إلا أن هذا الرجل، في منتصف الدرس، يصاب بمرض خطير يتطلب إجراء عملية على يد طبيب «لا يخشع في صلاته»، والآن، ومع لفت الانتباه إلى أن هذا درس يقدم لصغار في الثامنة من العمر، «فجأة قام الرجل بعد إجراء العملية الجراحية- ولم يفق بعد من المخد- فقال: أيها الطبيب، فقال له الطبيب: هل تريد شيئاً؟» فكرر له الرجل الحديث الشريف «ثم مات الرجل»، «فتعجب الطبيب من هذا الرجل الذي قام وهو تحت تأثير المخدر ليقول هذا الحديث العظيم» (ص 16) وبالطبع حضر الطبيب بعدها حلقات الفقه في المساجد وأصبح «داعية» كما يقول الكتاب.
ليست مشكلتي هي في تعظيم شأن الطبيب فقط عندما يصبح داعية، ولكن المصيبة هي في مقطع فيلم الرعب الذي يروي فيه رجل وهو على طاولة العمليات، حديثاً شريفاً، ثم يموت أمام الطبيب الذي جُل رد فعله وهو يشاهد رجلاً يتحدث «ولم يفق بعد من المخدر» (ص 16) بأن يقول «هل تريد شيئاً؟».
أنا أريد شيئاً، أريد لأبنائي أن يتعلموا ما ينفعهم في دنيا لن ترحم غباءً ولن تتعاطف مع تخلف، أريدهم أن يعيشوا في أمان نفسي لا رعب وقلق من موت وعذاب، أريدهم أن يتعلموا الجوانب الفلسفية والإنسانية التي تجعل من الدين منهجية جذابة لا قصص الخرافة التي تبيع الوهم معجوناً بالخوف… هذا ما أريد…. القراء الأعزاء، افتحوا كتب الصغار… واحموهم مما في داخلها.