هل أنت فقط من يدفع؟
ذكرت في مقال الأسبوع الماضي، الذي أستكمل موضوعه اليوم، سؤال سيمون دي بوفوار التخييري للنساء، في عارض حثها لهن على الحصول على المساواة التامة، حول ما إذا كن يرغبن في السعادة أم العدالة، ذلك أنهما على ما يبدو لا تجتمعان للنساء. من خلال سؤالها، تدعو دوبوفوار النساء لتحمل المسؤوليات، وخصوصاً المادية منها، كاملة مثلها مثل الرجل حتى تصبح مستحقة للمساواة ولذات الحقوق المكفولة له. فهل الموضوع بهذه البساطة والمباشرة، ومتى كان كذلك إذا ما كان مرتبطاً بقضية من قضايا المرأة؟ في الواقع، العدالة غير متوافرة للمرأة حتى في وضع ظاهره عادل. فظاهرياً، حتى تحصل المرأة على مساواتها التامة وحقوقها مكتملة، حتى تصبح قوتها المجتمعية والسياسية مساوية للرجل لا تنقص شيئاً، حتى تمتلك قراراتها مثل حق تطليق زوجها، وحتى تكون ولية على أبنائها، وحتى تكون لها ذات القوة في المجتمع، عليها أن تتحمل كامل المسؤولية الاقتصادية كما الرجل تماماً، مشاركة مناصفة تامة، وهذا هو الحق وتلك هي العدالة، ولكن هل هذا ممكن في حياتنا الواقعية؟ هل فرص المرأة في العمل وقيم مداخيلها ومجالات ترقياتها وإمكانيات حصولها على مناصب قيادية تمكنها اقتصادياً وسياسياً هي ذاتها فرص وقيم ومجالات وإمكانيات الرجل؟ هل الواجبات المنزلية التي يعود الرجل والمرأة لها في نهاية يوم العمل مقسمة بالعدل بينهما، كونها عبئاً لا بد من احتسابه ضمن منظومة العمل؟ لأن الجواب الطبيعي هو «لا»، فإن السؤال الاستشكالي الناتج هو: كيف إذن نحقق العدالة بين الرجل والمرأة في بيتهما إذا كان المجتمع بأكمله غير عادل مع المرأة في مناحي الحياة اليومية والعملية، إذا كان لا يعطيها نفس الفرص العملية المجتمعية وفي الوقت ذاته ينيط بها معظم إن لم تكن كل المسؤولية المنزلية؟
لربما نبدأ من هنا، من ضرورة استشعار المرأة أن الحصول على شريك غني يوفر لها قدرة صرفية عالية ليس دائماً بركة من الحياة، قد تكون هذه نقمة مستترة، مما يستوجب الحرص الدائم على بناء المرأة لنفسها ومحاولتها دوماً أن تشارك بالقدر الذي تستطيع في حياة الأسرة الاقتصادية حتى يكون لها نصيب حقيقي في صنع القرار.
إن حياة المرأة العربية بالعموم والخليجية بالتحديد، والمبنية على قوامة الرجل المادية، والتي تعتقدها المرأة نعمة، وطاعة المرأة الحياتية، والتي لا ترى المرأة استشكاليتها الضخمة، تحتاج لكثير من التعديل الجذري، تتطلب تعديلاً أيديولوجياً في تفكيرنا رجالاً ونساء، وتعديلاً مجتمعياً عملياً يعطي للمرأة فرصاً أكثر حتى تكون قادرة على بناء نفسها أكثر. ومن أهم التغييرات الفكرية الجذرية التي نحتاج إلى ترسيخها، التي كتبت عنها مطولاً شارلوت بيركنز غيلمان في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هي فكرة أن العمل المنزلي، كما العمل الخارجي، لا بد أن ينقسم على اثنين، هو ليس واجب المرأة الأول والذي يمكن للرجل تقديم «يد المساعدة» فيه، إنما هو واجب مستحق على الطرفين وبالمقدار ذاته. حين تتبدى هذه الفكرة بينة بين الطرفين، وحين يستطيعان ترتيب حياتهما وتقسيم العمل بينهما ليس على أساس أنهما رجل وامرأة فقط، لكن على أساس أنهما شخصان متساويان لهما الحق في الاتفاق الاختياري على تقسيم الأدوار، سيبدأ الميزان بالاعتدال. تبقى ضرورة الإشارة إلى أن اختيار البقاء في البيت وتكريس الحياة للأسرة والأطفال من النساء والرجال (مفهوم الأب الذي يكرس نفسه للأسرة مفهوم قائم في الغرب الآن) يجب أن يراعي أن البقاء في البيت هو جزء من المنظومة الاقتصادية، وأن تحمل عبء العمل المنزلي له مردود مالي من راتب الطرف الذي يعمل، وعليه؛ من يبقى في البيت يستحق نصف راتب من يعمل خارجه، ذلك لأنه يتحمل نصف، أو أكثر في الواقع، من أعباء الحياة.
أنتهي هنا إلى ضرورة التذكير بجزئية مهمة من التغريدة التي بدأت هذا الحوار، والتي وصلتني بنصها التالي: «الإسلام أباح لك الزواج من أي مسلمة على وجه الأرض.. بل ومن الكتابيات أيضاً.. فإن كانت نساء مجتمعك قد فسدن.. أو لم تجد بينهن الصالحة، فوسّع دائرة بحثك.. هناك من تنتظرك وتحرص على أن تسر ناظريك وتسعد قلبك وتكون أماً رائعة لأبنائك.. أنت من سيدفع.. وهذا حقك الذي كفله الشرع». لا بد هنا من الالتفات للإشارة إلى «فساد النساء»، لهذه الفكرة المزروعة عميقاً في وعي المسلمين نتيجة لبعض القراءات الدينية التي تؤكد أن أكثر أهل الأرض إفساداً هن النساء، وأن أكثر أهل النار عدداً هم، بالطبع، من النساء كذلك، كما لا بد من استيعاب أن هذه الفكرة تساهم في هذا التنميط الظالم الذي نعيش. وعلى الرغم من أنه مثير للدهشة أن يستطيع إنسان في هذا الزمان «الحقوقي» الإشارة بأريحية هكذا إلى فكرة فساد النساء وضرورة البحث عن غير الفاسدات منهن في مكان آخر متعاملاً مع المرأة على أنها سلعة، ومحولاً عملية الارتباط كلها إلى عملية اقتصادية ربحية بحتة- فإنه في الحقيقة هكذا تعامل بضائعي مع النساء لم ينته حتى في زمننا «المتطور»، فمازالت عملية البحث عن امرأة عملية اقتصادية ربحية بحتة في وعي كثير من الرجال، اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا، هي فعلياً عملية بيع وشراء بالنسبة لهم. ففي النهاية، أليس الرجل هو «من سيدفع؟» لن يغير هذا التشييء القبيح للمرأة سوى تغيير المعادلة الاقتصادية بين الجنسين وتعديل الوضع المجتمعي بأكمله على هذا الأساس. وفي كل الأحوال، لا بد من الاعتراف أن المرأة «تدفع» كذلك، لربما لا تدفع نقداً، إلا أنها تبذل ما هو أثمن وأعز، ما لا يمكن قياسه بعملة أو وزنه بميزان، فمتى تنظر الدنيا بعدالة لهذا الصرف غير المنظور؟