هلوسات
كانت النية تتجه إلى مقال حول مقابلة شاهدتها لسيد القمني، المفكر المصري الكبير رحمه الله، والتي يتلعثم خلالها في آرائه حول نشأة الكون ومعنى الروح وتاريخية الكتب المقدسة وحقيقية ورمزية القصص الدينية، مواضيع أصبح الحديث عنها أقل صعوبة اليوم وإن لم تتحقق لها الحرية والأريحية الكاملتين. إلا أن نوايا الليل يمحوها النهار، نهار إسطنبولي ثقافي عاطفي بامتياز، حوّل موضوع هذا المقال من ذاك الجاد الجدلي إلى آخر «هلوساتي»، سأتأرجح بين سطوره بتجربتي ومشاعري.
أكتب حالياً من إسطنبول في رحلة منفردة وطويلة لم أقم بها من قبل. أسافر وحدي كثيراً في الواقع، لكن ندر أن سافرت وحدي للسياحة، وأندر من ذلك أن تمتد سفرتي لأكثر من ثلاثة أسابيع أقضيها بين إسطنبول والقاهرة وحدي دون صحبة أي من الأحبة. الانفراد بالنفس تجربة رائعة وشاقة، تدفعنا كما تدفعنا لتصفية القلب والترويح عن الروح، كذلك إلى مراجعة الأداء ومحاسبة النفس. تجدد اكتشافي لبعض الأشياء عن ذاتي وتعزز نقدي لكثير مما في شخصي، والأهم هو أنني تيقنت من أن استقلالي النفسي هو ضرب من الخيال.
صحوت صباح كتابة هذا المقال على طفح جلدي ضرب جسدي بأكمله، تبين بعد مشاورة طبيبي تلفونياً، بالصوت والصورة، أنني أعاني من حساسية شمس، أنا، ويا للمفارقة، ابنة أحر بقعة في العالم. وكما ظهر الاحمرار المتوهج على جسدي فجأة، اختفى بعد ساعة زمان فجأة، وكأن جسدي يتجاوب مع لجة روحي ويطلق حرارة أشواقي وأفكاري على سطحه ثم يهدأ ويستكين إلى وحدته. صباح يوم كتابة المقال، غطيت وجهي وجسدي بواقي الشمس، فلم تكن أي حساسية لتمنع جولتي المرتقبة، وخرجت أمشي في شوارع إسطنبول لا ألوي على شيء.
والمشي في شوارع مدينة عتيقة هي رحلة ملحمية، يكتشف خلالها المتجول خبايا المدينة، روحها وأسرارها. اليوم عرفت إسطنبول كما لم أعرفها من قبل. اكتشف أحياء قديمة وأزقة خلابة ومتاجر محلية بهية، يعمل فيها ملّاكها، يتواصلون مع زبائنهم الغرباء بلغة الإشارة في الغياب شبه السائد للغة الإنكليزية. بعد ساعة من التجول بين أزقة منطقة تقسيم، وصلت إلى جسر غالاتا الذي سينقلني بعد قليل من إسطنبول الأوروبية إلى نظيرتها الآسيوية. قررت أن أستريح في أحد المطاعم الشعبية المطلة على خليج القرن الذهبي الذي يمر فوقه الجسر والمبخرة بروائح السمك والزفر المحبب. ما إن مشيت بمحاذاة المطاعم، حتى بدأ النُّدُل بمناداتي، كما هي عادتهم مع كل المرور، مستعرضين أطعمتهم ومؤكدين جميل خدمتهم. وقع اختياري على أهدأ المطاعم والذي به طاولة تستقر تقريباً في حضن الماء. جلست أمسح عرقي وأستمتع بنفحات الهواء رغم تشبعها بروائح البحر الثقيلة، وطلبت طلبي، وتفرغت تماماً لمراقبة النادل.
كان النادل الشاب يختار واعياً هؤلاء الذين سينادي عليهم محاولاً اجتذابهم، بدا أنه ذو حاسة سادسة تُفطنه لطبيعة السياح وتدفع به لاجتذابهم كل حسب توجهه ورغباته، وكأنه يقرأ دواخل نفوسهم. كان المنظر سريالياً وهو ينادي على عائلة بالإيطالي، على رجل وامرأة بالإسباني، على شابين بالعربي، ثم على فتاة شقراء رائعة الجمال بالانجليزية قائلاً: سيدتي، هل أنت عارضة أزياء؟ لم تلتفت له الفتاة، فالتفت هو إليّ إثر تصاعدت ضحكاتي. «مضحكين أنتم الرجال»، قلت له بود رغم حسي الساخر، «جملكم هي هي لا تتغير، ساذجة ومملة». ضحك الشاب وسألني إن كنت قد مررت بمطعمه من قبل، «وجهك مألوف» أخبرني، فابتسمت لجملته دون تعليق. سألني عن اسمي وكرر السؤال محاولاً حفظه: «إبثال؟ إبهال؟» ومع كل نطق كنت أومئ رأسي موافقة. نظرت إلى الزرقة الممتدة بروعتها أمامي وإلى الندَّل الشباب الذين لم ينظروا إليها للحظة وفكرت، كيف أن كسب العيش يعمينا أحياناً عن الجمال أمامنا، يعوّدنا على محيطنا، والتعود يقتل المتعه ويحرمنا أن نحيا بحق.
وصلت إلى الجراند بازار بعد ساعة ونصف من المشي في إسطنبول فائقة الحرارة، وبعد استراحة قصيرة قررت أن أعقد صلحاً مع بائع في أحد المتاجر كان قد غضب، وتقريباً طردني قبل يومين على إثر مزحة معه حول سعر بضاعته. مررت بمتجره وتعاتبنا، قال إن الدنيا لا تحتمل المزاح، وقلت إن الدنيا لا تستحق الغضب. تصافحنا وتواعدنا على اللقاء العام المقبل بوعد منه بكوب شاي مجاني. سعدت جداً بالصديق الجديد في دنيا تمتلئ بالأعداء، أعداء نكسبهم أحياناً ونحن لم نرهم أو نعرفهم شخصياً في يوم. أنهيت جولتي بين البازارات القديمة، وجلست لوجبة بين الغداء والعشاء في مقهى شعبي عزف فيه العازف موسيقى خارج «التون» ليرقص على أنغامه النشاز درويش جاد مخلص أسعد روحي وأضفى على الوجبة سحراً خاصاً.
في طريق العودة الذي سيمتد لأكثر من ساعتين، صاحبني فرانك سيناترا وأم كلثوم وأندريا بوتشيلي، وفكرت كثيراً في «السنين التي مرت زي الثواني في حبه» ولفحتني حالة رعب مؤقتة من رحلتي المنفردة التي سأخسر فيها ثلاثة أسابيع من وقتي على هذه الأرض معه، ماذا دهاني ولماذا فرضت علينا هذا البعد؟ رأيته في كل شيء حولي، في سماء اسطنبول، في أشرعة المراكب، في بلكونات الشقق المعلقة وحتى في «قرقرات» الأرجيلات الفائرة، تلك التي كان يطلبها وبالكاد يدخنها. دونه، بدوت وحيدة وصغيرة وتائهة، مشاعر تستبد بي أي وكل وقت نفترق، وهذا لعمري هو قمة الضعف، وثمن باهظ ندفعه في الحب، أن نصبح رهن وجود الآخر، ليتجلى معنى الحياة في شخصه، أي ضعف يحيق بالمحب أشد وأنكى؟
بدت إسطنبول رائقة في ساعات الليل، كأنها كانت في حرب صباحية، حرب مع الحرارة والرطوبة، حرب بين الباعة والمشترين، حرب بين المتنقلين المسرعين، لتنطفئ نيران هذه الحرب في هدنة ليلية رائقة، تعالت فيها أصوات الموسيقى من مصادر غير معلومة، وهدأ في ساعاتها الناس جالسين على «ضفاف» الشوارع، حاشرين أنفسهم على الطاولات الخارجية للمطاعم لتفادي الرطولة التي لا تزال معلقة داخل مبانيها. المشهد غريب بحق، كل المطاعم تقريباً خالية من الداخل، مزدحمة على أرصفتها الضيقة التي تطل على الشوارع. تبسمت ليلتها لكل من التقت عيني بأعينهم، ارتفع صوتي بالغناء دون شعور مني، وبعد أن استبد بي التعب فاستدعى ضحكات بعض المارة بجانبي، أكلت سميطاً من الشارع، وحاولت إيقاف تاكسي دون نجاح. «ليدي، ليدي» نادى عليّ سائق تاكسي أخيراً يدعوني بعد أن كدت أفقد الأمل، فصعدت معه استسلاماً لخوار قدميّ وعجزهما عن قطع آخر عشرين دقيقة. فكرت وأنا أصعد السيارة ممتنة شاكرة في كراهيتي الأولى لكلمة «ليدي» واستقبالي لها بداية وصولي لإسطنبول بشكل عدائي تفاعلاً مع معناها عندي وطريقة نطقها عندهم، ذلك إلى أن استوعبت أنها كلمة احترام وتحبب من الأتراك لسائحاتهن، فانقلب أثرها تماماً في نفسي. أتصورني غفوت، خطأً وخطراً، في التاكسي، وحلمت كثيراً في هذه الغفوة القصيرة. حين وصلت، كان الليل أجمل، والهواء ألطف، وروحي أخف، فتركت خلفي باب فندقي، وغبت مجدداً في أزقة إسطنبول.