هلا غفرت لي وانتظرتني؟
نحن أمة لا تمتلك رفاهية الأخلاق، بهذه الكلمات أود أن أعتذر لصديقي الذي أوجعه حديثي، لذاكرته المحمومة بأذى واعتداءات الأطراف التي أعلنتُ قبولاً براغماتياً بها في عدد من مقالاتي السابقة. ماذا أقول لك يا صديقي، ماذا تقول لك إحدى أكثر «المتشدقات» بالمبادئ والمثل وبضرورة أخلاقية الصراع حين تقع هي، مثلها مثل الملايين غيرها، تحت سكين براغماتية الحياة القاسية، تلك التي لا ترحم، لا تبقى ولا تذر، لا «تعمل» سوى في يد الأقوى؟
في مشوار سنواتي الإحدى وخمسين من هذه الحياة، صادفتني كثير من الاختبارات لمبادئي، رسبت في بعضها «بجدارة»، تماماً كما نجحت في أخرى عن استحقاق، لكن اختبارنا الحالي الجمعي قاس يا صديقي، حارق، لم يعطنا فسحة لنفكر في المبادئ، ولم يدع مجالاً للتواري خلف المُثل. هذا الاختبار يعامل الأطفال تماماً كما «حطب الدامة»، تلك اللعبة الكويتية التي قوامها قطع خشب صغيرة دائرية، يلتهمهم وينفيهم من الحياة دون تفكير. فهل ونحن في عز هذا الاختبار، يفترض بنا أن نفكر في «مثالية» مواقفنا السياسية؟ شخصياً، لم أعد أستطع ذلك.
في هذه الحياة القاهرة، وفي هذه البقعة المظلمة من الأرض، دوماً ما تنحصر خياراتنا بين السيئ والأسوأ. أناشدك يا صديقي أن تتذكر، متى كانت آخر مرة كنت أنت شخصياً تقف موقفاً اختيارياً واضحاً ومريحاً، موقفاً اختيارياً بين جيد وسيئ، حيث كل ما كان عليك هو أن تُعمل تفكيرك وتنشط ضميرك لتختار بوضوح وثبات؟ المبادئ والمثل بل وحتى الأخلاق هي رفاهيات يا صديقي، يستخدمها ويتشدق بها الآمن الشبعان المصونة كرامته، أما نحن وأطفالنا في غزة محاصرون بالقنابل، جائعون، فيما نحن هنا مهانون بالعجز وقلة الحيلة، فلا نمتلك فعلياً تفعيل هذه الرفاهية، رفاهية الأخلاق.
لا يخفى على أحد الشبهة السياسية الإيرانية العميقة المتشكلة في حكومتها الشمولية الدينية التي لم تعزل وتقمع وتؤذ وتفقر الداخل الإيراني فقط، لكنها بلا شك امتدت بسياساتها المؤذية للخارج؛ تدخلاً في العراق وسوريا بداية، ثم امتداداً استخبارياً تمويلياً تجسسياً لما عداهما، حالها حال أي دولة كبيرة في محيط منطقتها، فالدول كمؤسسات لا أخلاق مفعلة لها، والكبيرة منها ستتصرف كذلك، على أنها كبيرة مهيمنة ومهددة للصغير حولها. والصين دولة ديكتاتورية شمولية مؤذية، وروسيا دولة دكتاتورية قمعية مؤذية، وتركيا دولة ديكتاتورية مريبة مؤذية، وكل دولة لها موقف «أخلاقي» اليوم من مجزرة غزة بها «بلاء أخلاقي أيديولوجي إنساني» ما، وعليها ما عليها من ويلات السياسة.
ومثل الدول هي حال الأحزاب والميليشيات، ولكن هل هذا هو وقت تذكر سقطات حزب الله أو الأيديولوجيات القمعية لحماس أو حتى الأخطاء الفاحشة السابقة للنظام الإيراني؟ إن أردت الحق يا صديقي، أنا لا أنسى لهم جميعاً ماضيهم، ولربما المبدأ الأخلاقي يفرض علينا أن نتذكر لهم هذا الماضي الخَرِب حتى وهم يقفون جميعاً موقف الحق اليوم. إلا أننا بداخل حلبة السياسية ها هنا، والسياسة لا صديق دائماً فيها كما لا عدو دائماً فيها أيضاً، كما أن حدة جريمة الإبادة وعظمة درجة الفحش وارتفاع صوت الصمت تجاه المأساة الحالية تفرغ الذاكرة، ولو وقتياً، من كل الماضي، وتمحو منها كل الغضبات والاشمئزازات السابقة، فأسى اليوم جَبَّ ما عداه، والأجساد الطاهرة المتساقطة في غزة قلبت الموازين، فغيّرتنا تغيراً جذرياً بعد أن أدخلتنا في دوامة تساؤلات اعتقدنا أننا حسمنا أجوبتها وانتهينا من تنازعاتها، ليصبح سؤالاً مباشراً مثل «هل تدينون حماس» هو السؤال الأكثر تردداً حول العالم والأصعب إجابة على كثيرين، والأشد تدججاً برصاص الماضي وبذخيرة الاختلافات الأيديولوجية العميقة.
تجارب كثيرة في الحياة فرضت علينا مواقف براغماتية تقف إلى اليوم كالأمواس في الحلوق. وهل كان سهلاً ثمن تحرير الكويت الذي ضاعف الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة؟ هل كان متخيلاً ثمن إسقاط صدام حسين الذي تمثل في غزو أمريكي وحشي للعراق؟ وعلى مستوى أكثر شخصية، هل كان سهلاً الوقوف، إبان حراك المعارضة الكويتية حين كان هناك حراك، في صف معارضة إسلامية قبلية الهوى نعلم أنا وغيري فسادها القديم وتحالفاتها الحكومية السابقة المشبوهة؟ الاختيار المريح الأخلاقي التام في السياسة ما هو إلا كذبة، يمكن بهرجة خارجها، إلا أن داخلها سيبقى دوماً معتماً وثقيلاً بعطن هواء مكتوم. فهل ندين حماس يا صديقي؟
يقول لي من يهمهم أمري إنني قد أكون تباعدت ومنطلقاتي اليسارية الاجتماعية، وأنني قد أكون تنازلت تجاه قضاياي الإنسانية ومواقفي السياسية المسبقة، ولا شيء يقع موقع أكثر صعوبة على النفس من اتهام كهذا، يجردك من فكر أيديولوجي إنساني هو كل ما شكل هويتك وكيانك، يسائلك عن هؤلاء الذين ستتناسى مظالمهم وقد كانوا هم قضيتك الأولى. لكننا هنا في الشرق الأوسط، حيث الخيار بين سيئ وأسوأ، وحيث الالتزام الأخلاقي المبدئي رفاهية، وحيث الأطفال الأبرياء يدفنون تحت الركام، وأمريكا تطلق فيتو تجاه قرار وقف إطلاق النار، هل كان أكثر الناس براغماتية يتخيلون هذا المشهد؟ في أي واقع نعيش؟ أهذه حقيقة أم خيال ديستوبي مرعب؟
سآخذ وقتي في الكتابة العاطفية الانفعالية، وسأخون كل ما آمنت به وأتحول عن المبادئ والمثل إذا كان ثمن التمسك بها عذابات أهل غزة، وسأساند كل من يساند فلسطين بغزّتها وضفتها وجولانها وقدسها وخليلها وجنينها، وبكل شبر من أراضيها ولو كان شيطاناً رجيماً، فنحن في عالم لا يرحم الضعفاء ولا يحترم الملتزمين، وحتى ننجو وينجون، لا بد أن نلعب، ولو مؤقتاً، لعبتهم الرخيصة. في لومك قلت لي، لا يزال خيار الصراع والمقاومة الأخلاقيين متاحاً، وهو حقيقة موجود ثابت من منطلق أن قضية فلسطين هي قضية مبدأ وأخلاق وحق، لكنه غائب في خضم المصالح التي تحكم الصراع حول القضية وفي الدفاع عن استحقاقاتها، ولذلك لا أرى الخيار الأخلاقي المريح تماماً الآن يا صديقي، لا أراه بين الأجساد، تحت الركام، في السماء المغبرة بغبار الانفجارات، بين أنقاض الأنقاض، أسفل مشاهد الدم، لا أراه، وإلى أن أراه أستميحك عذراً وأرجو مغفرتك، لن أقف الموقف الأخلاقي المريح الذي تتوقع مني حالياً. لكنني أترجاك ألا تفقد كل الأمل بي، لربما تتغير الدنيا، فيحق الحق، وتنجو غزة، وتتحرر فلسطين، وتنجو سوريا، وينجو العراق، وينجو السودان، وتنجو أوكرانيا، وفي محصلة صغيرة تافهة غير مهمة، أنا أعود.