«نقطع عرقا ونسيح دمه»
ألف مبروك تونس، أيتها البقعة الخضراء في قلب هذا الشرق الأوسط المسكين. خطوة جبارة أخذتها تونس باتجاه المزيد من المساواة بين مواطنيها حين صادق مجلس الوزراء التونسي على مشروع قانون الرئيس الباجي السبسي لمساواة المرأة بالرجل في الميراث، لنبقى في انتظار تصديق مجلس النواب عليه، والتي هي عملية ليست هينة على ما يبدو. إلا أن تحقيق هذه القفزة الهائلة واستحضار هذا الموضوع بكل شائكيته وحساسيته ووعورة تفاصيله إلى ساحة النقاش العربي الإسلامي هي في حد ذاتها خطوة تستلزم التهنئة وتستحق الفرح والاحتفال.
هذا التوجه المدني الرامي للعدل والمساواة بين المواطنين ليس بالغريب أو الجديد على تونس، فتونس قد أقرت قبل أكثر من نصف قرن مجلة (بمعنى قانون) الأحوال الشخصية المتطورة التي منحت المرأة مكانة مواطنية رائعة تليق بها كمواطنة، وبتونس كبلد مدني حديث. إلا أن موضوع الميراث بقي مرتفع الحساسية وعصياً على التغيير، إلى أن أتى الرئيس السبسي ليعلنها بكل صراحة ووضوح أننا بلد مدني نحتكم للدستور، وللدستور فقط، الذي هو وثيقة تقر بالعدالة والمساواة بين المواطنين، ليُتبع ذلك بطرحه لمبادرة المساواة في الميراث تلك، التي أتت بعد تأسيس «لجنة الحريات الفردية والمساواة»، وتقدمت باقتراحات مذهلة في درجة جرأتها ودفعها بقيم العداولة والمساواة والحقوق الإنسانية.
المشرع التونسي أشار إلى وضعية قواعد الميراث، حيث يقول إن أحكام المواريث «تقوم على العصبة».
كيف يا ترى انتقلت تونس من مرحلة «دار جواد» التي «كان يختارها القاضي الشرعي في تونس لمعاقبة كل امرأة لم تطع زوجها أو أباها أو أخاها أو تجرؤ على كسر العادات الاجتماعية؟» كما تقول وجدان بوعبد الله في مقالها «للذكر مثل حظ الأنثى… فعلتها تونس» المنشور على موقع «رصيف22» في يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني، إلى مرحلة المساواة شبة التامة في قوانين الأحوال الشخصية، مع امتداد الطموح للمساواة التامة في كافة مجالات الحياة؟ تقول بوعبد الله في شرحها للكيفية التي قفزت بها تونس القفزة الأخيرة: إن المشرع التونسي أشار إلى وضعية قواعد الميراث، حيث يقول إن أحكام المواريث «تقوم على العصبة»، وهو «نقل أمين لنظام اجتماعي معين هو النظام القبلي»، ويشرح كيف أن «العصبة هي القبيلة، رجالها الذكور المنحدرون دون انقطاع بأنثى من أصل ذكر واحد. أما مال القبيلة، أي قوتها الاقتصادية، فيجب أن يبقى قدر المستطاع في يد رجالها. أما الأنثى فإن كان لها نصيب فيجب ألا يفوق نصيب الرجال لسبب واضح، هو الحيلولة دون انتقال مال القبيلة بموجب الزواج إلى قبيلة أخرى قد تكون منافسة». تستكمل بوعبد الله شرحها للطريقة التي كيّف بها المشرع هذا الحق، قائلة إنه «هكذا استند المشترع في شرحه أسباب طرح القانون إلى فكرة ارتباط التمييز ضد المرأة بـ «القبلية» التي لم يبقَ لها مكان في تونس منذ عقود، كما يستند في جانب آخر إلى التزام تونس بمعاهدات دولية صادقت عليها وبنصوص الدستور الذي نص على المساواة بين المواطنين».
المثير للانتباه كذلك هو موضوع اختيارية التنفيذ الذي ينتحيه القانون التونسي الجديد، أي أنه من حق المرأة رفض مساواتها بالميراث التزاماً بالرؤية الشرعية التي تؤمن هي بها. وعلى الرغم من كل الاعتراضات والانتقادات التي وجهت لهذه الاختيارية في التنفيذ، إلا أنها قد تكون ذات أثر كبير في تمهيد الطريق، وذلك «حتى يتعود المجتمع التونسي المساواة في الميراث بعد أن كانت «مقدسة»، كما أشارت وجدان في تبيانها لوجهة نظر المشرعين في مفهوم المرحلية. ولقد سبق للرئيس السبسي أن أشار إلى هذه الاختيارية في عارض حديثه عن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، الذي أتى على عدد من المواضيع عظيمة التطور الحقوقي والإنساني، إذ أكد السبسي أن حق اختيار التطبيق الشرعي، عوضاً عن تطبيق أي من القوانين المقترحة عبر اللجنة المذكورة، سيبقى مضموناً لمن يرغب فيه، إلا أن القانون الرئيسي في الدولة والذي سيتم تطبيقه بدهياً- إلا إذا ما أعلن الفرد رغبته في الالتجاء للقانون الديني- سيكون قانوناً مدنياً بحتاً يرمي إلى تثبيت أسس العدالة والمساواة التامة بين المواطنين، وإرساء قواعد قوية للحريات الفردية والعامة، وذلك إلغاء لكل صور التمييز الجنسية والعرقية، بل وحتى الجندرية.
تونس قطعت أشواطاً إلى الأمام وقطعت علاقاتها بتمييزات بائدة ما عادت قابلة للتطبيق، فمتى يقطع بقية الشرق الأوسط؟
يبقى السؤال، هل تقدم تونس على هذه الخطوة تصادماً مع الدين، أم اتفاقاً وتوافقاً معه؟ هل ستبقى كل خطوات التقدم المدني والإنساني متضادة والدين، أم أن الالتقاء والتكييف ممكنان؟ يرى العديد من الباحثين والمفكرين الإسلاميين أن الدين الإسلامي قادر على هذه المواكبة وطيع للتكيف مع الزمن ومستجداته. كل ما يحتاجه الموضوع هو خطوات جريئة ومواجهات جادة مع وجوه الماضي التي لا تزال تتعلق بذيوله خوفاً على مصالحها وسلطاتها، فإذا ما انكسر الخوف مرة، وتكسرت الاعتبارات السلطوية مرة، ستكر السبحة وسيأخذ الدين الإسلامي بيد عالمه الشرق أوسطي إلى الأمام خطوات شاسعة، اتفاقاً لا صراعاً، وتعاوناً لا تضاداً هداماً. لا بد لنا اليوم من الأخذ في الاعتبار التغييرات الحقيقية العميقة الحادثة في لب المجتمع، التي تستدعي التغيير السريع والجاد لتركيباته السلطوية والاقتصادية والاجتماعية. فكما توضح بوعبد الله في مقالها المذكور، فإن «التمييز الذي يجعل من الرجل «قواماً على المرأة» لأنه في المنظور الشعبي مسؤول عن جميع نفقات الأسرة، ولأنه يمنح ميراثاً ضعف أخته، لم يبقَ له مكان في تونس الحديثة- يقول العديد من الحقوقيين- لأن المرأة اليوم تتحمل عبء الأسرة معنوياً ومادياً، فذلك التمييز الذي ينطلق من الأسرة ويتصاعد تراكمياً ليصبح تمييزاً مجتمعياً آن الأوان للقطع معه». تونس قطعت أشواطاً إلى الأمام وقطعت علاقاتها بتمييزات بائدة ما عادت قابلة للتطبيق، فمتى يقطع بقية الشرق الأوسط؟