نفضة روح
من أهم إنجازات الإمبراطورية الصينية العظيمة التي توالت عليها سلالات فاخرة مهيبة تعاونت في بناء واحدة من أعظم حضارات العالم، هو نظام الحكومة البيروقراطية، حيث تعود كلمة بيروقراطية إلى مصدرها “بيرو” أي مكتب، وهو ما يشير إلى طبيعة النظام الذي يعتمد على تقسيم الموظفين في مكاتب متعددة لإنجاز العمل، نظام كان ينظر إليه على أنه ثوري في سرعته إلى أن استوردناه نحن وألبسناه ثوب الروتين والكسل.
وقد كان من أهم شروط موظفي الحكومة في وقتها أن تكون لديهم معرفة موسعة في الفلسفة والأدب والشعر، بل القدرة على سرد الأخير إن لم يكن نظمه، ولذا نجد أن معظم القادة الصينيين في ذلك الزمان كانوا من الشعراء والفلاسفة المشهورين، ولهذه الثقافة الرفيعة تحديداً يعزى النجاح العظيم الذي حققته الإمبراطورية الصينية في مختلف مناحي الحياة.
في عارض التفكير المستمر في إنقاذ الكويت من التخبطات الطائفية والقبلية والفساد والرعوية وغيرها من أمواج متلاطمة تكاد تغرقنا جميعاً، تلح علينا هشاشة فكرة الإنقاذ من خلال تجديد الحكومة والبرلمان، لو كان هذا هو كل المطلوب لصلح كل العالم.
تذكرني الوعود الإصلاحية من خلال حكومة ومجلس جديدين بوعود الرشاقة من خلال حبوب التخسيس، حبة في الصباح وأخرى في المساء، وفي خلال أسبوع تفقد كيلوغرامات عديدة من جسدك، وبعد أسبوعين تبدأ الهلوسات وحالات التشنج العصبية وردود الفعل العضوية الخطيرة التي يمكن أن تفضي إلى الموت. هذا ما نفعله نحن، حكومة جديدة في الصباح، برلمان بقراطيسه في المساء، ونعتقد أن بلدنا سيعود رشيق القد نحيل الخصر في نهاية الشهر، والحق أننا نغرق في هلوساتنا ولا نصحو إلا ونحن على حافة الهاوية. التغيير يجب أن يطول العقول قبل الأجساد والأماكن، ليس مهما جسد الوزارة ولكن المهم عقلها الجمعي المتمثل بأداء كل واحد من وزرائها، ليس مهما شكل البرلمان المهم المنطق والوجدان والضمير المتلبسة لهذا الشكل، وهنا تكمن المشكلة، فتغيير المظهر الملموس سهل، أما تغيير المعنوي المحسوس فهذا هو التحدي الأكبر.
نحن، هذا الجيل والذي يليه، سنعاني، لن تتغير نوعية قادتنا كثيراً، ولكن يمكن أن نخطط لأحفادنا وأبنائهم لو أننا زرعنا الفن والأدب والفلسفة والشعر والموسيقى في وجدانياتهم بينما هم يكبرون. إن من حضر اعتصامات المعارضة، ومن شاهد خطابات الحكومة، يمكنه لو قرأ الوضع بعين المحايد، أن يستشف المشكلة الأخلاقية العظيمة لدينا.
نحن نعتمد الصراخ لأنه يغطي على المنطق، نتشدق بالتطاول والإهانات لأنها تتنكر في صور الشجاعة، نتداول الشتائم لأننا لا نروم فعلياً الإصلاح ولكن الانتقام. نحن بحاجة إلى تغيير جذري، بحاجة إلى إعادة النظر في تعريف القوة والشجاعة والإصلاح، بحاجة إلى نفضة روح ترفعها وترفعنا من مستنقع الملايين الذي غرقنا فيه، بحاجة إلى انتماء جديد، نجد فيه ذواتنا، نشعر من خلاله بأهميتنا، بحاجة إلى أن نقبر كل فخر لنا في الانتماء إلى طائفة أو قبيلة أو عرق أو لون أو ثروة، أن نقبر هذا التفاخر تماماً وإن بقي الانتماء، فلا يبقى سوى فخر تعريف أنفسنا بأوطاننا، فقط لا غير. نحتاج إلى خطة إعادة بناء شاملة طويلة المدى تكون فيها الموسيقى والفلسفة والأدب من أساسيات تعليم الأولاد والبنات، أساسيات تفتح لهم أبواب العالم، وتعلمهم اللعب كجزء من منظومة الدنيا الرحبة؛ فتتواضع نفوسهم أمام جمال وضخامة التنوع الإنساني.
ندفع بهم في رحاب المسرح فيتعلم الصغار كيف يكون الانتقاد برفعة والتساؤل بجمال، وتأتي الفلسفة ليستيقظ العقل فيتدرب تدريباً سخياً لا سبات بعده، ثم تتهادى الموسيقى، تدق جدار القلب، فيخفق احمراره نقياً يانعاً دائراً على بقية أطراف الجسد، ليتحول كله إلى وجود من نور، فيختفي الشر والألم والحزن ولا يبقى… غير النور.
هكذا ننقذ المستقبل، إن رغبنا في مستقبل، أما على المدى القصير الحالي فلنعلق لوحات فنية في مجلس الأمة والوزراء، ندر شيئا من الموسيقى الكلاسيكية الهادئة في أروقة الوزارات، نوزع أبياتا شعرية صباحية على مكاتب النواب، هذه ليست حلولاً، هذه حبوب مسكنة لحين وصول الجيل المعجون بالأدب والفن، فهو المنقذ الحقيقي، وإلى حينها، نخدر الموجودين بشيء من الجمال، نتحاشى شرورهم بترقيق قلوبهم، قد تفيد الضمادة لحين وصول الدواء الحقيقي.
“آخر شي”:
إهداء لمن قرأ المقال، وقد تعلقت بوجهه ابتسامة استنكار أو استهزاء.
يقول أمل دنقل:
“بين لونين: أستقبل الأصدقاء… الذين يرون سريري قبراً
وحياتي… دهراً وأرى في العيون العميقة
لون الحقيقة لــون تـــراب الـــوطـــن!”.
إن لم تغير هذه الكلمات شيئاً من نفس سعدون حماد، فلا أمل يرتجى، لا أمل.