«نداء للرئاسة»
السيد رئيس مجلس الوزراء
لو كنت موجوداً يوم الثلاثاء 2 فبراير الماضي في مستشفى مبارك، لشاهدت منظراً عجيباً، سيدة ترتدي فستاناً صوفياً أزرق، متناثرة الشعر، محمرة الوجه، تنشج كما طفل صغير على مدخل المستشفى، تبكي بحرقة وبصوت يطرق أذنيها لم تسمعه يخرج من جوفها منذ كانت طفلة صغيرة. لو كنت موجوداً يا سمو الرئيس.
إليك الحكاية سيدي: لي ثلاثة أيام أعاني من مطارق تطرق رأسي، أفيق على آلام وأنام على آلام، شيء ما يشبه صوتاً صارخاً وضوءاً ساطعا وسوطاً لاذعا، كلها مجتمعة في قشرة ليمونة حارقة ومدسوسة في رأسي. ذهبت فجر الثلاثاء إلى طوارئ مستشفى مبارك، وبعد أن وخزت الممرضات يديّ ثلاث مرات، استطعن أن يجدن عرقاً نابضاً في يدي يضعن من خلاله “الدرب” ويحقنّ كل أنواع المسكنات. سكن الألم وعدت إلى بيتي لأحبس نفسي في غرفة مظلمة، إلا أن قشرة الليمون بكل محتوياتها عادت تفرك نفسها في رأسي فركاً حارقاً، وبحلول العاشرة من مساء ذلك اليوم، نصحتني طبيبة صديقة أن أعود وعلى وجه السرعة إلى “مبارك”، فلربما هو شريان في الرأس انهار أخيراً تحت ضغوط الحياة.
حملني زوجي مسرعاً إلى المستشفى، أسمعه يصيح باسمي في السيارة وكأن صوته يأتي من بعيد، أحاول أن أطمئنه وأنا غير متأكدة تماماً مما أقول، فالطنين لا يتوقف، والألم الذي نزل حتى فكيّ حملني إلى طبقات عليا من “التجلي”، لا أدري إن كنت أسبح في السماء أو أغوص عميقاً في الأرض. عندما وصلنا، وعلى توقعاتنا، كان المستشفى يعجّ بالمنكوبين، وعندما شاهدني موظف الاستقبال، لربما كنت أهذي أو أقطر لعاباً من فمي، لا أدري تحديداً، أسرع بي إلى الدكتور من باب خلفي، والذي بدوره دفع بي مسرعاً إلى غرفة الملاحظة، وهنا بدأت النكبة.
لم يستطع زوجي أن يصحبني للغرفة، فاتكأت على الحوائط والطنين يغنّي أغنياته في رأسي. أخبرتني الممرضة أن أمامي أحد عشر مريضاً بلا سرير، أحد عشر يا سمو الرئيس. متكئة على الحوائط خرجت أخبر زوجي الذي أصرّ أن نذهب فوراً إلى مستشفى خاص. رفضت وطلبت منه الانتظار، فقد كنت أعلم أن نصف مصاريف مدارس الأولاد ستذهب لهذا المستشفى، الانتظار لابد منه. بعد ما يزيد على ساعة ونصف من الانتظار، بعضها وقوفاً وبعضها جلوساً عند توافر كرسي، وبعد محادثة ثلاثة من الأطباء عن حالتي وتشككي بوجود مشكلة شريانية في الرأس، وبعد أن غنى الطنين أغاني الروك أند رول كلها في رأسي، تقدمت مجدداً من الطبيب الواقف أمامي، أعدت شرح الحالة وأشرت إلى سرير فارغ عساه أن يخدمنا أنا والسيدة اللتين بقينا قيد الانتظار. رفض قائلاً إنه سرير فحص. قلت وماذا أفعل، أنا متألمة وأشعر أن الوجع يزداد، قال انتظري سريراً، انظري للمسنات والمرضى ينتظرن (كنت أنا وسيدة شابة فقط قيد الانتظار وقتها) قلت ومتى تجد لي سريراً؟ عندما أقترب من الموت؟ هنا وفجأة، ثارت ثائرة الدكتور فارتفع صوته مسمعاً من حولنا، وحين طلبت منه أن يتحدث بهدوء ثار أكثر وأمرني بالخروج من الغرفة قائلاً إن لديه مرضى ليعتني بهم. ساعتها بدأت أسمع قلبي يدق عالياً في أذني، “كمشت” الجانب الأيسر من صدري، وقلت له كيف تجرؤ؟ أعاد صراخه: اخرجي بره. طلبت اسمه لأشتكي عند الإدارة، فرفض بفظاظة طبعاً، عند باب الملاحظة وفي اللحظة الأخيرة عندما فلت زمام أعصابي قلت له: أنت جبان، وخرجت. أصبحت عيني اليمنى مغلقة تماماً، قلبي يدق فيزيد الطنين في أذني، مال المستشفى كاملاً على جنبه، وانقلبت صور الناس، كانت مهمة عسيرة الوصول للإدارة التي تبعد أمتاراً قليلة، وقفت أخبرهم بكلمات لا أدري إن فهموها أن الدكتور طردني وأنني أريد تقديم شكوى، وصل عندها زوجي، ولما رأيته نشجت كما لم أفعل منذ كنت طفلة في الخامسة، وما إن التفّت ذراعاه حولي حتى خارت ركبتاي، تلاشت كل الأصوات والأشكال، ولم أجد نفسي بعدها بثوان إلا وأنا جالسة على كرسي، في منتصف المستشفى، كل ذلك يا سمو الرئيس على مرأى ومسمع من الناس. حضر الدكتور رئيس النوبة، اعتذر كثيراً وأصرّ على إعادة إدخالي، أتذكر أنني كنت أحاول أن أتحاور معه، فتنتابني نوبة أخرى من البكاء الحارق، فتضيع الكلمات وسط الدموع وطنين الأذن ودقات القلب. على السرير أصبحت المهمة تهدئتي حتى يستطيع الجميع مزاولة عملهم. أتذكر أنني كنت أحاول التماسك، أغلق فمي فيسيل أنفي ويطنّ البكاء من أذنيّ، أرفع عنقي حتى يخفّ النحيب، فتنفجر الدموع من جانبي العينين، كنت في يد نوبة البكاء تلك بالكامل، لم يعد لديّ أدنى تحكم في أي من تصرفات جسدي. شُخصت بنوبة صداع نصفي ونصحت ألا أتناول الكافيين حتى تهدأ ضربات القلب. دخلت برأس يطنّ، وخرجت بقلب يئن. وتلك هي الحكاية التي لم ولن تمرّ يوماً بها يا سمو الرئيس، ولا أتمنى لك ذلك أبداً.
وأنا في الغرفة تساءلت: هل أستحق السرير الذي ترقد عليه السيدة السريلانكية ذات الجرح العميق في يدها لأنني كويتية فقط؟ وهل أنا أولى بالعناية من السيدة الأردنية التي تحمل طفلها المصاب ذا الأربعين يوماً فقط لأن جنسيتي أولى من جنسيتها؟ وهل يمكن لجنسية الإنسان أن تحدد أولوية حاجته للطبابة؟ منطق غريب وغير مفهوم. والحق أخبرك يا سمو الرئيس وعلى بؤس ما حدث، إلا أنني لا أجد الذنب ذنب ذلك الطبيب، وهذا لا ينفي خطأه الجسيم ولا يحقق له الغفران في قلبي، الذنب الحقيقي هو ذنب ذلك النظام الذي يحمّله خمسة أضعاف ما يجب أن يتحمل الطبيب المعالج. كانت غرفة الملاحظة ذات الستة عشر سريراً تقريباً تشبه غرفة كوارث، وكأن زلزالاً أو حرباً شعواء قد انتهيا للتو. وهي الحال التي تتكرر ليلة بعد ليلة، يوماً بعد يوم، فكيف لهؤلاء الأطباء أن يلزموا الأخلاق السريرية المستحقة للمريض؟ وكيف يمكن أن يتجلى الحل بالفصل بين الكويتيين والأجانب؟ فبخلاف التشويه الإنساني في هذا الحل، فإن الأعداد الهائلة لن تتأثر، والأهم الضغوط المريعة على الأطباء لن تتغير، وهكذا تبقى المصيبة قائمة. معظم الأطباء الذين قابلتهم ليلتها كانوا من غير الكويتيين، فكيف تطلب منهم الخدمة في نظام يميز ضدهم؟
استمع إليّ سمو الرئيس وأنا أدري ألا حظوة ولا حتى أبسط مودة لي عندكم: ما مررت به تلك الليلة يمرّ به مواطنوك ومقيموك بشكل يومي، مرضى وأطباء، وفي حين كان لي خيار المغادرة وإن كانت تكلفته لتؤثر بشدة في ميزانيتي، فإن غيري ليس له حتى مجرد الخيار. كويتيون أم غير كويتيين، بل أخص غير الكويتيين الذين، وأنت خير العارفين، يقومون بالخدمات الفاعلة في البلد، كلنا نستحق الأفضل حتى نستطيع أن نعمل وننتج أفضل، هو استثمار في القوى البشرية بأبسط أشكاله وأول درجاته. وليس الحل في فصلٍ وعزلٍ وتسفيرٍ على أتفه الأسباب للمقيمين وتعسف في معاملتهم، الحل في صرف الأموال الصح في المكان الصح، هكذا ببساطة.
سمو الرئيس، أن تقود بلداً فإنك تحتاج أن تحتكّ بمشاكله، بحقيقة أوضاعه، أن تعيش كما مواطنيه ولو ليوم حتى تصل الصورة الحقيقية وحتى تتجلى الأجوبة الناجعة. مثلاً خذ سيارتك في يوم إلى طريق الفحيحيل الساعة السابعة صباحاً، اذهب إلى مستشفى حكومي في أي وقت من اليوم، حاول أن تأخذ موعداً في وحدة القلب أو مستشفى العيون أو طب الأسنان، دقّق في المعاملة التي ستتلقاها من موظفي الاستقبال، جرّب أن تنهي معاملة حكومية، جدّد دفتر سيارتك أو ادفع مخالفة، حاول أن تنقل طفلك من مدرسة إلى أخرى، أشياء يومية كثيرة لم يعد لها حل سوى بالواسطة، حتى أصبحنا مجتمعاً كبيراً من علاقات اجتماعية معقدة، من يعرف المؤثر منها تمشى أموره ومن لا يعرف يقف في طوابير طويلة مريعة إن صبر عليها، كيف سيصبر على المعاملة التي سيتلقاها أو الخيبة التي ستناله حين يصل إلى نهايتها؟
ليست المشكلة في الناس سمو الرئيس، ليست المشكلة في مواطنين أو مقيمين، المشكلة في نظام سياسي وفير الأموال قليل التخطيط، غير محتك بالناس العاديين. ما زلت أتذكر كلمة المسؤول الكبير الذي قابلته ذات مرة: “زحمة؟ وين الزحمة؟ الوضع عندنا جداً طيب”. وبالطبع لن يدرك هذا المسؤول الزحمة أو لن تدركه هي، فهو يذهب ويعود بموكب، فكيف له أن يشعر بما نشعر به، وكيف له أن يستوعب المشاكل التي لم يعشها أو يختبرها أو يحتك بها؟
إن حجم الكارثة يا سمو الرئيس يتطلب قرارات نظام بأكمله وتغييرات شاملة في الأداء والأسلوب. أكتب إليك والطنين ما زال نابضاً، وألم الإهانة ما زال حارقاً، أبحث عن الغفران في قلبي للطبيب فلا أجده رغم تفهمي لما دفعه لفعلته. لقد خربت التجربة طبيعتي المسالمة، فاحسبها يا سمو الرئيس، إذا طال هذا الخراب تقريباً كل مواطن عادي على أرضك، فكيف ستكون الحال؟