مين يعيش؟
أبدأ من حيث انتهى المقال الماضي: إذا لم تكن هي العقوبات التي يمكن أن تحمي المجتمع الإنساني وتردع «العصاة» ومرتكبي الجرائم، فما الذي يمكنه أن يفعل؟ ما الذي يمكن أن يقوي المنظومة الأخلاقية في المجتمع ويغرسها عميقا في وجدانه وأساسياته الفكرية ليحولها إلى «طبيعة» سلوكية عوضا عن نمط مفروض بالتهديد والوعيد؟ يفرض هذا السؤال نفسه حين النظر في أعداد السجون حول العالم على سبيل المثال، فأعلى عدد لمقرات السجون عالميا موجود في أمريكا والصين وروسيا (أعداد الناس تلعب دورا هنا بالتأكيد)، كما أن هذا السؤال مستحق حين النظر في الأوضاع الأمنية للدول صاحبة أعلى معدل إعدامات في العالم ألا وهي إيران، والعراق، والسعودية، وأمريكا، والصين. ففي حين أن نسبة الأمن الإنساني والاستقرار الأخلاقي تنخفض في كل هذه الدول صاحبة أعلى أعداد للسجون وأعلى نسب إعدام في العالم، فإن هذه النسب للأمن والاستقرار الأخلاقي ترتفع بشكل مذهل في دول مثل السويد وهولندا مثلا، حيث تنخفض أعداد المساجين في السويد إلى 4500 شخص من أصل تعداد تسعة ونصف مليون نسمة، حسب مقال في «الغارديان»، وحيث ترتفع نسب الحريات في هولندا التي تسمح بتدخين الماريجوانا في الأماكن العامة على خلاف معظم دول العالم. للسويد تحديدا نظرية في إدارة سجونها ومعاملة مساجينها الذين تعتبرهم «زبائن» المطلوب إعادة تأهيلهم لا معاقبتهم، طبقا للمقال ذاته في «الغارديان»، إلا أن السؤال الأهم هنا هو: كيــــف استتب هذا الوعي السلوكي وهذه القيم الأخلاقية في معظم المجتمعات الأوروبية، وتحديدا في الدولتين المذكورتين أعلاه، مع انخفاض نسبة العقوبات وارتفاع نسبة الحريات؟ كيف حققت هذه المجتمعات تلك المعادلة المذهلة القريبة من الاستحالة؟
لربما هو الكلام المكرر ذاته يفرض نفسه الآن حول الثورة الفكرية والأخلاقية، ذاك التغيير الجذري الذي يفترض أن يضرب البنية التحتية، فيخلخلها، ويقلبها كما التربة البائتة، لتتحول إلى تربة جديدة خصبة قابلة لطرح محاصيل جديدة مختلفة تماما. إلا أن المعضلة تبقى في تحقيق هذه الثورة الفكرية والأخلاقية التي عادة، يقول التاريخ الإنساني، أنها تتحقق من المعاناة، فالفقر والقمع وتكبيل الحريات كلها كفيلة بأن تخلق ألما وغضبا يدفعان بالأسئلة الجديدة للوعي الإنساني، والتي بدورها تدفع لثورة فكرية وأخلاقية تتجذر عميقا في قلب وعقل المجتمع الذي عادة ما يكون قد دفع الغالي والنفيس من أجل استتبابها. لا بد إذن من إقناع الناس بجدوى القيم الأخلاقية، جدوى مادية وجدوى معنوية، تكون مؤثرة فعليا في حيواتهم وفي نفسياتهم، حتى تستقر هذه الأخلاقيات والصور السلوكية النبيلة. لا بد للناس مثلا أن يختبروا كيف أن الرأي الواحد يخلق طغيانا حتى يؤمنوا بالحرية والتعددية، وأن النصب والاختيال يخلقان فقرا مجتمعيا كاملا سيصيبهم وسلالتهم من بعدهم حتى يؤمنوا بالأمانة، وأن الغش يصنع فشلة سيصبحون أطباء ومهندسين ووزراء يهدمون البلد بل ويقتلون النفوس حتى يؤمنوا بالنزاهة العلمية، وأن عدم الانتظام في طابور سيخلق فوضى ستعطلهم هم قبل غيرهم، وأن مخالفة الإشارة الحمراء ستصنع اضطرابا فعليا يعرضهم هم وأبناءهم لأشد المخاطر، وأن فرض رأي عقائدي موحد وإجبار الناس على كتم أفكارهم ومعتقداتهم سيخلق طبقة منافقة ستكبر وتتجبر ذات يوم وتلتف بحبال أفكارها على أعناق جلاديها الذين كانوا، تماما كما حدث بعد الثورة الفرنسية. لا بد للناس أن يختبروا فشل غياب الأخلاق حتى يستشعروا أهمية وجودها الدنيوي في تحقيق حياة مستقرة لهم على هذه الأرض بغض النظر عن تأثيرها الأخروي وما قد تحققه لاحقا. «فلاحقا» التأجيلية يمكن لها أن تجعل الناس «تؤجل» الأخلاق كذلك، وتماطل في التنفيذ، وتتساهل في إيجاد مخارج لها خارج إطار الأخلاق المطلوبة، أما التأثير الآني فهو أكثر فاعلية في تثبيت المنظومة الأخلاقية وغرسها عميقا في الوجدان. مع الوقت، تصبح المنظومة الأخلاقية هذه تحصيل حاصل، وأمرا واقعا، مثل الهواء الذي نتنفسه، تستقر عميقا في ضمائرنا حتى لا نعود نميزها كاختيار، لتصبح رد فعل بيولوجي، طبيعي، غير قابل للنقاش.
طبعا هناك قيم وممارسات أخلاقية لا علاقة لها مباشرة بالمنفعة، يعطي كريستوفر هيتشينز موضوع التبرع بالدم كمثال على ذلك، حيث إننا نتبرع بالدم على سبيل المثال دون مردود مادي أو حتى بيولوجي مباشر، إلا أن الرضا النفسي والمنفعة المعنوية لهما أن يلعبا دورا كبيرا هنا، وقيمة هذين ترتفعان في المجتمعات التي استتبت لها الأخلاق الأساسية أصلا، لتكتمل هذه الأخلاقيات الأساسية بعد ذلك بالأخلاقيات والممارسات الأكثر علوا والأرفع فضيلة، والتي تعتبر إضافة على نظام الأخلاقيات الأساسية. المهم يعني، أريد القول إن المشوار طويل والثمن باهظ، و«مين يعيش»؟