ميليشيا الإلحاد… والتدين
بعث أحد رموز الإسلاميين في الكويت، والمتبني لفكرة «مكافحة الإلحاد» منذ زمن، مقطعاً لبرنامج يبدو أنه سيأتي على حلقات عدة لاستيفاء فكرة المكافحة تلك، وذلك على مجموعة «واتس آب» أتشارك أنا وهو والعشرات غيرنا من الكويت فيها. يرسل هذا الشخص الكريم الحلقة على المجموعة ويطلب الرأي في المشروع الفكري، ثم لا يرد على حواري الفكري معه، البداية لا تبشر بخير كثير. أتت هذه الحلقة التي امتدت إلى 8 دقائق و24 ثانية لتشرح كيفية بدء الإلحاد، على حد تعبير الفيلم، ثم سبب إنتاج برنامج لمقاومته، مصوراً الإلحاد على أنه مؤامرة على العالم عموماً والعربي منه خصوصاً، عوضاً عن كونه توجهاً فكرياً يمكن التعامل معه بتوجه فكري آخر. أتت الحلقة لتقدم صورة نمطية قديمة في التعامل مع فكرة اللادينية أو الإلحاد، مغمورة بالتآمرية والصراعات السياسية والعداء المحدد تجاه الإسلام، ما لا يبشر بالعقلانية المطلوبة في طريقة التفنيد في المقبل من الحلقات.
تشير الحلقة إلى أن الملحدين، على إثر أحداث 11 سبتمبر/أيلول، أسسوا إستراتيجية جديدة للإلحاد أطلق عليها «الملاحدة» (لا أدري إن كان تكرار هذا اللفظ يحمل نفساً تحقيرياً أم لا) اسم «حملة الخروج: أي الخروج من العزلة الشعورية» لينشأ إلحاد ميليشي، كما يدعو إليه ريتشارد دوكينز. هنا تحول الإلحاد، تقول الحلقة، «من حالة استثناء تنشأ بعد فترات حرجة مثل إلحاد عصر التنوير… إلى حالة أصبحت طبيعية في العصر الحديث». ما تغفله الحلقة، عمداً أو جهلاً، هو أن اللادينية أو التساؤل المستمر حول الوجود والعدم وطبيعة الإله، هو تساؤل قديم قدم الإنسان الحضاري في حد ذاته، وربما أقدم، وأن حركات مثل الحركة الوجودية والمستقبلية، التي بالفعل قويت على إثر الحروب العالمية، كانت لها منابع تاريخية قديمة استمرت إلى يومنا هذا حتى بعد انحسار الحروب الدموية بمعناها التقليدي القديم. ابن سينا مثلاً كان من الباحثين في فكرة العدم، وأفكاره التي قد يراها متدينو هذا العصر إلحاداً، بنيت عليها الكثير من فلسفات العصر الحديث، وما ابن سينا سوى مثال منفرد ومن داخل الحضارة الإسلامية التي يحن إلى أفكارها صناع البرنامج.
تشير الحلقة إلى أن الإلحاد ليس سوى «دين خفي يعادي بقية الأديان» حيث «أصبح للملحدين مواقفهم الخاصة والمعلنة من الكون والوجود والفلسفة والحياة، فضلاً عن الاستقطاب الاعتقادي والاستعلاء على النقد الذي صاحب ظاهرة الإلحاد الجديد». والسؤال هو، ما المشكلة في أن يكون لأي توجه فكري، ديني أو غير ديني، مواقف خاصة ومعلنة واستقطابات فكرية؟ أما الاستعلاء على النقد، إذا كان حقيقياً، ولا بد أنه حقيقي كسلوك فردي من بعض الأطراف، فلنحمد الله أن المسألة وقفت عند حد هذا الاستعلاء ولم تتعداها إلى التهديد والوعيد والعنف الذي يصل حد الاغتيالات التي تنتهجها الحركات الدينية المتطرفة في الدفاع عن توجهاتها. إذا كان الفكر اللاديني يحمل صفات استعلاء، فماذا تصف الفكر الديني الذي يقول إنه يقدم الحقيقة المطلقة ويوجهك لطريق الجنة والنار، بل ويتكلم مباشرة بلسان الإله؟ هل من استعلاء أقوى من الحديث بلسان الخالق؟
تذهب الحلقة بعد ذلك للحديث عن سمات الإلحاد، فتقول إن توجه الملحدين هو «نحن في حرب، والدين هو العدو: الإلحاد هو الحقيقة في هذا الوجود، أما الأديان فمجرد خرافات» ولكن، إن صح هذا الاتهام، ألا يقول المتدينون القول ذاته؟ أليس توجههم هو: نحن في حرب، والإلحاد هو العدو: الدين هو الحقيقة في هذا الوجود، أما الإلحاد فمجرد خرافات؟ اعكس قائل الجملة، ألا تنطبق تماماً؟ سمة أخرى من سمات الإلحاد تشير إليها الحلقة هي «النجومية والتبشير بالإلحاد: سام هاريس، ريتشارد دوكينز، كريستوفر هيتشينز، دانييل دانيت، احتُفي بهؤلاء النجوم، وتصدّرت صورهم المجلات الإخبارية»، كما تؤكد الحلقة أنهم نشروا كتباً حول الموضوع بداية من الكتب العلمية إلى تلك الشعبوية، هذا غير أن الحركة الإلحادية كلها تنتج الأفلام والأغاني وتعلن من خلال الكتابة على «التيشيرتات» وألواح الشوارع. أولاً، الأسماء المذكورة أعلاه هي أسماء علماء ومفكرين مخضرمين، وضعت صورهم على المجلات العالمية لمكاناتهم العلمية قبل أي حديث لهم عن الإلحاد. ولكن إذا غضضنا النظر عن هذه المغالطة (حيث المغالطة والتحوير هما المنهجان المعتادان في الدفاع الديني من قبل المتدينين العرب تحديداً) ألا ينطبق التوصيف ذاته على الدينيين؟ ألا يحتفي بهم الإعلام، بل ويمجدهم؟ ألا ينشرون الكتب وينتجون الأفلام والأغاني والأناشيد ويروجون لأفكارهم عبر الكتابة على «التيشيرتات» ولوحات الشوارع؟ تعود الحلقة للتذكير «بالمؤامرة» إشارة إلى أن «الملاحدة» قد «احتفلوا بمناسبات مثل: عيد ميلاد داروين، ويوم الإلحاد العالمي»، وأنهم ينظمون صفوفهم المؤسسية، والسؤال يبقى: ألا يفعل المتدينيون الفعل ذاته؟ كيف «تنهى عن خلق وتأتي مثلة»؟ ولماذا هو حلال على توجهك الفكري وحرام على التوجه المضاد؟
تنتهي الحلقة بالإشارة إلى «الإلحاد في العالم العربي» واصفة إياه بأنه «تمرد على المألوف، وخروج عن السلطة، والتشكك في القديم مهما كان، حالة يمر بها الشباب العربي مع انحسار موجة التدين والتفكك الأسري والاضطراب السياسي». في خضم سذاجة الحلقة في مجملها، يربط صُناعها بين الإلحاد والتمرد على المألوف والخروج على السلطة والتشكك في القديم، وكلها من أروع سمات العصر الحديث التي تدفع بالإنسان إلى الأمام وتخرجه من نزعة السلطات الأبوية السياسية والفكرية القديمة إلى حيز التحرر السياسي والفكري الحديثين، فأي نقد مقدم هنا للإلحاد لشباب عصر جديد ثوري يرى في ثوراته أملاً جديداً؟ أما ربط الإلحاد بالتفكك الأسري، فتلك محاولة مثيرة للشفقة، كان يمكن «اختراع» فكرة أفضل من ذلك بكثير وأكثر إقناعاً.
أخيراً، تشير الحلقة إلى البرامج العربية حول الإلحاد وعشرات الصفحات و«الجروبات» للملاحدة، مشيرة إلى أن الحال لا يقف عند ذلك، بل هناك قنوات تلفزيونية تبث من الدول الأوروبية «للدعوة إلى الهجوم على الإسلام وميراثه الديني والثقافي، كل ذلك شكل بيئات جديدة للملاحدة العرب واستحدث أسئلة تلح على وجدان الشباب العربي، ما يدعونا لترك السخرية من تساؤلات الشباب الحائرة والسعي للإجابة عن أسئلتهم» ولربما تلك هي حسنة البرنامج هذا إن صدق القول: محاولة الإجابة عن الأسئلة هي التوجه الصحيح والمعقول في عصر الانفتاح التام على المعلومة، المهم مدى صدق المعلومة المقدمة ومدى خلوها من التلغيم والتحقير والاستعلاء المعتادة وتنقدها الحلقة الأولى في حد ذاتها. لربما سيأتي شيء جديد؟ من فحوى الحلقة الأولى لا يبدو ذلك، ولكن… ربما.
رابط الحلقة، لأن الرأي والرأي الآخر يستحقان الفرصة دوماً:
https://www.youtube.com/watch?v=VC7DNQSxuXo