ميزان
كتب بول بلوم مقالاً مميزاً جداً في The Atlantic بعنوان The Dark Side of Empathy يتحدث فيه عن مخاطر التعاطف، مخاطر المحبة والإشفاق، وكيف أن هذه المشاعر تدفع أحياناً باتجاه المزيد من العنف. كيف؟ يفتتح بلوم المقال متحدثاً عن مشاعره الشخصية فيقول (الترجمة لي) «أنا لست عادة مؤيداً للقتل، إلا أنني مستعد لعمل استثناء بشأن قياديي داعش. كنت لأشعر برضا مؤكد اذا ما تم مسحهم من على وجه الأرض. ان هذا مسلك نمطي جداً، لربما يشاركني فيه المزيد حتى من أصدقائي الليبراليين، على الرغم من أنه، فكرياً، توجه نحن غير مرتاحين له أو فخورين به».
يقول بلوم ان علماء النفس لديهم تفسيرات متعددة لمثل هذه المشاعر، إلا أنها جميعاً لا تنطبق على شعوره الشخصي، فهو لا يعتقد أن داعش يشكل تهديدا حقيقيا له أو لعائلته، هو غير مسير بمشاعر التقزز أو التحقير، هو لا يجردهم من إنسانيتهم، لا يعتبرهم حشرات أو كلاباً، على حد قوله. ما يحرك بلوم، يؤكد بلوم، هو مشاعر التعاطف والمحبة ليس تجاه داعش بالتأكيد ولكن تجاه ضحاياهم. فلقد رأى هو تسجيلات قطع الرؤوس والصلب وقرأ حول الاغتصابات والعبودية والتعذيب «ولو أنني أقل توغلاً في معاناة الضحايا» يؤكد بلوم «لكنت أكثر تقبلاً لنقاش متوازن حول الخيارات المختلفة. ولكن لأنني مهتم، فإنني فقط أريدهم أن يدفعوا الثمن حقاً».
يستشهد بلوم ببعض العلماء والمفكرين الذين بحثوا في هذا الجانب والذين يؤكدون أن الإنسان يتغذى على مشاعر الانتقام التي تتولد عند الآخرين نتيجة لتعاطفه معهم. فأحياناً، وحتى بمخالفة للمنطق، إذا ما تولد لدينا تعاطف قوي مع شخص، فإننا نتمنى الأذى بل ويتولد لدينا شعور بالرضى من هذا الأذى ان أصاب غريمه، حتى لو كان الغريم على غير خطأ. يقول بلوم إن الساسة لا يمانعون أبداً من استغلال هذا الوجه المظلم للتعاطف ليستجلبوا الرأي العام باتجاه رأيهم، وإن خلا من المنطق والإنسانية، بل حتى إن تطرف. فمثل هذه الآراء تم استغلالها لإثارة الحروب، حيث يستشهد بلوم بغزو العراق في 2003 والذي اكتسب تأييداً بتغذية الرأي العام بشرور صدام حسين وأبنائه. إسرائيل تستخدم الأداة ذاتها، كما تستخدمها «حماس» لتبرير أي عنف يتداولونه، و الأداة ذاتها يستخدمها أوباما لتبرير سياساته في سوريا. كل هذا التعاطف الذي يحاول الساسة أن يستحلبوه من العامة إنما يهدف في الواقع للحصول على التعاطف والتأييد للمزيد من العنف والمزيد من الشرور التي سيرد بها الساسة على معارضيهم، وما نحن، المتعاطفين المحبين، سوى أداة مقبضها (الذي يتحكم فيه الساسة) هو عواطفها.
«ان الغضب الذي يتولد عن التعاطف» يقول بلوم «هو ما يحرك البعض من أكثر رغباتنا العقابية شراسة». يؤكد بلوم أن التعاطف الشديد أحياناً يحجب عنا الاختيارات الأكثر عقلانية بل الأخلاقية كذلك. «ان جزءاً من نفسي لا يزال يتمنى لقادة داعش الموت». يقول بلوم «ومع ذلك، وفي لحظاتي الأفضل، فإنني أدرك أن ما يجب أن أتمناه حقاً هو أن يتوقفوا عن تعذيب وقتل الناس، وأن أي إجراء عنيف تجاههم يجب أن يقاس على أساس العواقب المحتملة – كم سيجعل هذا الإجراء من العالم مكاناً أفضل، كيف سيردع هذا الإجراء مثل هذه التصرفات في المستقبل – وليس على أساس كم سيكون هذا التصرف مرضياً لي ولأصدقائي. يمكن للجميع التمييز بأن الخوف والكراهية يمكنهما أن يشجعا الخيارات القبيحة، الا أننا يجب أن ننتبه أن أكثر مشاعرنا رقة يمكنها أن تشجع خيارات مشابهة».
عندما قُتل بن لادن لم أجد في نفسي لحظة رضا، لربما الرجل يستحق، لربما ليس هناك خيارات أخرى سوى خيار القتل القبيح هذا، ولكن هل يجب أن أفرح له؟ هل يجب أن أشجعه؟ هل يجب أن أتشفى في رمي جثة الرجل في وسط المياه؟ هل سيكون لهذا التمثيل الوحشي، قتلاً وتخلصاً من الجثة، أي أثر على الميت أم أنه سيؤثر على الأحياء فيقسّي قلوبهم ويبعدهم خطوات عن إنسانيتهم؟ لربما بلوم يعينني على ما أردت أن أقول، ان التعاطف والتواصل التام مع آلام ومآسي الآخرين قد يعميان العقل أحياناً ويدفعان باتجاه خيارات أقل إنسانية وأخلاقية، ويبقى هنا السؤال: كيف نتصل عاطفياً ونحكم ونقرر عقلياً ومنطقياً؟ هذه هي المعادلة الصعبة التي لا نستطيع جميعنا وفي جميع الأوقات أن نوازنها.