موت علني
في كل السرديات الروائية أو التاريخية حول موضوع انعدام الجنسية، وعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة في أسباب تشكل انعدام الجنسية والظروف المحيطة والتداعيات اللاحقة، إلا أن جملة واحدة تبقى هي الثابتة وتتكرر على ألسنة عديمي الجنسية منذ بدايات القرن العشرين لتقول إنه لم يعد هناك من سبيل سوى الموت.
ففي روايات عديم الجنسية “الكويتي” ناصر الظفيري، والذي توفى خارج الكويت ليُحمل نعشه في يوم خارق البياض ويُدفن في باطن ثلج لا ينتمي له، كثيراً ما سيطر الموت كـ “ثيمة”، أحياناً كوسيلة خلاص وأحياناً كلعنة تصيب عديم الجنسية وهو حي يرزق ليصبح الحي الميت في آن.
لا تختلف السرديات التاريخية كثيراً، حيث تنقل كتب التاريخ أقوالاً عن أهم الشخصيات عديمة الجنسية المناضلة في قضيتها، والتي خرجت من الحربين العالميتين بهذه الخسارة الفادحة للهوية، كلها تنتهي إلى شعورهم بملاحقة الموت الرمزي لوجودهم والذي يتحول مع الزمن إلى موت فعلي وغياب حقيقي للوجود، أو إلى شعورهم بأن الخلاص الوحيد المتاح هو بالخروج الاختياري من هذه الحياة، بالانتحار.
نحن كائنات اجتماعية جماعية، نادراً ما نستطيع أن نعيش بمعزل عن الآخرين أو بانفراد يسند نفسه دون الحاجة لجماعة تقيم أود الهوية والوجود.
ولهذا نجد أن أقسى خطاب فاقد للأمل، مشتاق إلى النهاية يأتي من الأشخاص محرومي الهوية، هؤلاء الذين دفعت بهم ظروف اجتماعية أو جغرافية أو سياسية، كلها خارجة تماماً عن إرادتهم، إلى التعلق على حبال الحياة دون فرصة الوقوف على أرض صلبة أو إلى السقوط في شقوقها العميقة الداكنة دون أمل في الخروج للنور والوقوف على أرض مستوية منيرة.
في الكويت يتجلى هذا الخطاب وتداعياته، نظراً لوجود ديمقراطية وحرية تعبير نسبيين فيها مقارنة بجيرانها، واضحين على ألسنة وحيوات عديمي الجنسية، حيث ارتفعت في السنوات الأخيرة نسبة الانتحار بين “بدون” الكويت وحيث تفاقم اليأس ليحصد أطفالاً، ليس فقط رمزياً ولكن فعلياً، في أحداث مرعبة ومروعة.
لا ننسى في الكويت قصة الطفل، علي، الذي علق نفسه في مروحة غرفته ليريح أباه من همه ومصروفه حسب ما ذكرت عائلته عما كان يتردد على لسان الطفل الفقيد. هذه قصة من قصص، الكثير منها يضيع في زحمة الآلام والأكثر منها خفي لا يكشفها أصحابها إما عن خوف أو يأس.
حالياً يضرِب مجموعة من رجال “البدون” في الكويت عن الطعام لهم الآن ما يقرب من أسبوعين، وها هي الأيام تمر بما ينذر بتداعيات مروعة قادمة إن لم يتجاوب المجتمع، بعد فقد الأمل في تجاوب الحكومة، ليتوقف هذا الإضراب.
والإضراب عن الطعام هو صفة احتجاجية مؤثرة ومشروعة وإعلان مروع ليأس وغضب وألم من أقلية لم تعد تجد مخرجاً ولم تعد ترقب أملاً، إلا أنه لا يزال رغم مشروعيته وتأثيره وإنسانية رسالته فعل انتحار بطيء.
هو موت تدريجي يومي ذي تداعيات هائلة، ليس فقط على المُضرِب بحد ذاته، والذي وإن نجا من الجوع بإيقاف الإضراب قد لا ينجو من تداعيات هذا التجويع القسري الصحية التي قد تكون طويلة الأمد، ولكن كذلك على المجتمع بأكمله، على الصحة النفسية والضمائرية والأخلاقية لهذا المجتمع، في حال استمر صمته وتجاهله، والذي يعيش مع مجموعة تموت ببطء رمزياً وفعلياً.
الإضراب عن الطعام هو فعل احتجاجي يترجى التحرك السريع والفاعل لاتخاذ موقف تجاه المعضلة. وعليه، إذا لم نتحرك جميعنا كمجتمع كويتي لإيجاد مخرج، ستكون التداعيات هائلة وسيكون الثمن فادحاً.
هل السعي علناً للموت ميزة؟ فقط في شرقنا الأوسط المسكين، حيث نسمع أنين عديمي الجنسية وننظر لحراكهم في الكويت على أنه ميزة، لنسر لأنفسنا أن “على الأقل صوتهم مسموع في الكويت حيث هو مكتوم مهدد في معظم الدول الخليجية والعربية الأخرى المحيطة”.
ومتى أصبح سماع صوت الألم ميزة؟ ومتى أصبحت القدرة على الانتحار ببطء فضلاً يجب أن نحمد الحكومات عليه؟ الحرية التي تبيح لنا رؤية الألم والمعاناة والظلم ولا تمكننا من العمل على إنهائهم هي حرية شكلية، هي صورة مصقولة سرعان ما تذوب ألوانها الاصطناعية تحت حرارة ظروف الحياة.
لقد حدد العالم الدولي سنة 2024 لإنهاء انعدام الجنسية في العالم أجمع. هو واجبنا الإنساني حيث نكون، وفي أي بقعة من العالم نعيش، أن ننهي معاناة هؤلاء المعلَّقين على حدود الدول، المختفين في الشقوق الغائرة بينها، شقوق صنعتها قوانين الجنسية والهوية الوطنية، كما عمقتها العنصريات والطبقيات والكراهيات والعرقيات الغابرة الجاهلة.
واجبنا أن ننصف عديمي الجنسية بحقهم في الانتماء لمجتمعاتهم التي يعرفون، وأن نضمهم للمجتمع الإنساني الأكبر فلا نتخلى عنهم تباعاً تحت أي عذر أو ظرف. عديمو الجنسية هم “مواطنون عالميون إنسانيون”، إذا ما لم ينتموا لشعب محدد أو لأرض محددة، فهم ينتمون لكل شعب ويرتبطون بكل أرض، والعالم كله، وبلا استثناء، مسؤول عنهم.
وكما نطالب بإنقاذ “بدوننا” في الكويت الذين نتباهى، ويا للحزن، بسماع صوتهم “على الأقل”، فإننا نطالب بانقاذ “بدون” جيراننا الخليجيين والعرب ومن ثم العالم أجمع، وفي كل بقعة من بقاع الأرض التي لم ترحم ولم تضم ولم تشفع.
هؤلاء “المواطنون العالميون” مسؤولية في رقابنا ودَيْن على ضمائرنا إلى يوم الدين.