تحميل إغلاق

من أي طائفة أنت؟

من أي طائفة أنت؟

استثار مقالي السابق غضبة البعض من المتابعين والقراء الأعزاء من حيث تناوله، بعد الاحتفاء بالسقوط المدوي للنظام السوري القمعي البائس، لبعض المخاوف والمخاطر التي قد ينطوي عليها وجود قوى أصولية جديدة حليفة للنظام الأمريكي على الأراضي السورية، أولاً تجاه الاستقرار السوري والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وثانياً تجاه المقاومة الفلسطينية وما يعنيه سقوط النظام الأسدي الحليف للنظام الإيراني من قطع للإمدادات العسكرية وإضعاف، إن لم يكن إنهاء، لكل أذرع المقاومة الفلسطينية.
لم تتوقف الغضبة عند المؤيدين المستائين من ذكري لأي مخاطر أو توجسات، ولكنها أتت كذلك من الاتجاه المعاكس؛ من المستائين من ذكري لأي نتائج مرضية أو فوائد ممن يرون في هذه الثورة سلبيات جمة تتعدى إيجابياتها، وكذلك من أصحاب الانحيازات الطائفية الذين يرون في الإطاحة بنظام الأسد خطورة على طائفتهم.
لم يكن المقال مرضياً لطرفي القطب، فنحن العرب والمسلمين، لا نعرف سوى الاصطفاف التام، إذا كنت مع فلا تنقد مطلقاً، وإذا كنت ضد فلا ترى أي بارقة أمل. كن منحازاً متطرفاً تكن أيديولوجياً عربياً مسلماً.
وكيف لا ونحن أولاً، كعرب تحديداً، لا بد أن نمجد أي قيادة جديدة وننفخ في صورتها ونحولها إلى كيان شبه إلهي غير قابل للنقد أو التحليل. هذا هو ديدننا الذي طالما أدخلنا في أنفاق مظلمة والذي يبدو أننا لن نتعلم منه، فالقائد الجديد الذي أسقط سلفه القمعي الظالم، يصبح رمزاً عصياً على التشكك أو التقييم، يصبح هو الثورة والثورة هو، تُبرر كل تصرفاته ويُغفر كل ماضيه ليجبّ حاضره بدايته أياً كانت وأياً كان معناها وتبعاتها.
نحن دوماً في حاجة لمخلّص، لأسطورة، لرمز مقدس، “لرجل” فوق كل الشبهات نبقى ننفخ في أناه حتى يأتي اليوم، والذي لا بد أن يأتي، لينفجر هذا الإنسان في وجوهنا.
لا نخطئها نحن العرب ولا مرة، بأيادينا وعقولنا وسلوكياتنا، نفسد حتى أفضل المناضلين، ذلك أنه متى ما أتى ثوري، جهادي، قائد ملهم، مفكر حاكم، متمرد، وينجح في مسعاه، حتى ننصبه مباشرة مكان الديكتاتور السابق، المقدس، العصي على التقييم، دع عنك النقد أو التوبيخ.
وكيف لا ونحن ثانياً، كمسلمين تحديداً، نحكم ونحاكم دينياً وطائفياً، فطائفتك هي أول إطار يقدمك للناس، وهي محفز لأي رأي تقدمه وخلفية لكل كلمة تقولها.
وعليه، لا بد ممن يقدم قراءة متخوفة من مرجعية الحكم الجديد في سوريا وتحالفاته، أن يكون إما “ليبرالياً أخرق” معادياً للإسلام ككل، أو “شيعياً متآمراً” لا يستطيع أن يرى أبعد من انحيازاته الحزبية. وهكذا يتحول مجرد التفكر في أو التوجس من أو النقد لنظام الحكم الجديد ذي الخلفية الأصولية المتطرفة بعلاقاتها بالقاعدة وداعش وذي التحالفات المخيفة بأمريكا وتركيا، إلى تماد على البطل الرمز وعلى الثورة السورية بأكملها، بل ومن المؤكد أن كل متوجس أو ناقد هو إما معاد للإسلام في أحسن الظروف أو شيعي “خارج عنه” في أسوئها. هذه هي تحديداً بداية التوجه الشعبي لخلق نظام ديكتاتوري جديد.
ورغم احتفائي الحقيقي في مقالي السابق بسقوط واحد من أبشع الأنظمة الديكتاتورية الفاشية في العالم العربي، ورغم أنني أشير إلى فصائل المقاومة على أنهم ثوار حقيقيون، ورغم أنني أؤكد أنه وإن كانت إحدى نتائج سقوط هذا النظام القمعي هي إضعاف أذرع المقاومة، فإن هذه النتيجة لا يجب أن تؤثر على احتفائنا بسقوط النظام السوري الفاحش، ذلك أن مسؤولية مقاومة العدو الصهيوني ليست، ولا يجب أن تكون، منوطة بالسوريين وحدهم ليدفعوا ثمنها منفردين تحت نظام حكم قمعي يمعن فيهم القتل ويحيلهم أشباه بشر في السجون، وينهب خيرات بلدهم كل يوم، أقول، رغم كل محاولات التحليل المنطقي و”التبرئة الذاتية”، مازلت إما ليبرالية كارهة للدين في أفضل التقييمات، أو شيعية متآمرة في أسوئها، أو “متسننة” خائنة متملقة في أغربها، لا مهرب من هذا الحكم ولا مخرج خارج هذا الإطار. وعليه، ليكن ما يكون.
لا يوجد الكثير ليقال للمتخوفين من الخطة الأمريكية التركية.
خوفكم في محله، لكن الاحتفاء بسقوط هذا النظام الفاشي وبتحرر أبناء سوريا من سجون مرعبة مخيفة يفترض أن يَجُب، ولو لحظياً، كل المخاوف والتوجسات أو على الأقل يتساير معها، كما ولا يوجد ما يقال مطلقاً للمتأثرين طائفياً سوى أن نظام الأسد كان عبئاً على الطائفة ومدمراً لها ولسمعتها السياسية، فاحمدوا الله على سقوطه، والعقبى للتحرر الإيراني من نظام الحكم القمعي، عودة للنظام الذي كان موجوداً ذات يوم، نظام رئيس الوزراء محمد مصدق الذي خلق ديموقراطية حقيقية في إيران أرعبت النظام الأمريكي ودفعته للقضاء عليه وصاحبه، ولإثقال إيران بحكم الشاه الفاسد ومن بعده حكم المرشد الشمولي.
وبعد، نبارك للشعب السوري تحرره، تحرر وإن أتى متأخراً وبعد أن كلف الشعب السوري أرواحاً وأمناً وسلاماً واستقراراً وأموالاً طائلة، يبقى مستحقاً وباعثاً على الفرح والشعور بالقدرة على سحب الأنفاس أخيراً. إلا أن هذه المباركة لا تعني ولا يجب أن تعني التخلي عن النظرة التقيمية الواقعية للوضع الحالي، كما أن العنونة والوصم والهجوم والأحكام المؤلمة لا يجب أن تحيلنا إلى صمت خائف ينحو لتجنبها كلها. واقع الحال أنه على الرغم من أن سوريا حرة وأن نظاماً متوحشاً قمعياً بعثياً قد اندحر، فإننا على مسافة بعيدة من الاستقرار والأمن المستحقين لسوريا، وعلى مسافة قريبة مرعبة من العديد من المخاطر التي ستهدد الأراضي السورية، ثم تتعداها لمحيطها الإقليمي.
هذا يعني أننا معنيون الآن بالتفكر أن أي دور منوط بنا لمساعدة سوريا على البقاء موحدة وبمنأى عن أي حكم متطرف، وكيف سنساعد المقاومة الفلسطينية التي أصبحت، بعد طول تخلّ وإهمال، وكما كان يجب دوماً أن تكون- مسؤولية العرب والعالم أجمع، لا سوريا بمفردها، التي دفعت لذلك ثمناً باهظاً. وبعد كل هذه الصراعات والمنازعات “الإلكترونية”، هل مازالت أعيننا على غزة؟

اترك تعليقاً