منحدر
لا يخلو التاريخ الإنساني، وخصوصاً الحديث، من قصص أقليات تعايشت في بيئاتها وتمكنت من الوصول إلى أماكن صنع القرار، وذلك حين تخلت هذه الأقليات عن فكرة الضحية وتحملت مسؤولية حياتها واستبدلت كل مشاعر ولاء قديمة بمشاعر حب وانتماء وولاء جديدة لموقعها الجغرافي ولمحيطها الإنساني الجديد.
يتساءل الباحث والمفكر الكبير وزميلنا في جريدة “الجريدة” أستاذ خليل حيدر في مقاله ليوم الخميس الماضي المعنون “الشيعة وخديعة العبدلي” حول الأسباب التي تُوقع شباب الشيعة في ذات المشاكل سنة بعد سنة ومنذ أربعين سنة، أي منذ قيام الثورة في إيران في 1979. العودة للمقال ضرورية جداً، وقراءته بتمعن مستحقة للتواجه والظروف التي تجعل من الشيعة أقلية متربصاً بها مشكوكاً في أمرها، حيث يسوق الكاتب عدداً من الأسباب الرصينة والأهم الواقعية، والتي تُحمل صاحب الشأن المسؤولية عما يحدث له دون اللعب على أوتار المشاعر وبعيداً عن انتهاج دور الضحية الذي لا يبدو أن شيعة الخليج يريدون الخروج من عباءته.
ومما لا شك فيه أن هناك تمييزاً طائفياً في منطقة الخليج، فهذه سنة الحياة الإنسانية التي لا تخلو من أقليات وأكثريات تشكل مواقف من وضد بعضها البعض، إلا أن التاريخ الإنساني، وخصوصاً الحديث، لا يخلو من قصص أقليات تعايشت في بيئاتها وتمكنت من الوصول لأماكن صنع القرار وذلك حين تخلت هذه الأقليات عن فكرة الضحية وتحملت مسؤولية حياتها واستبدلت كل مشاعر ولاء قديمة بمشاعر حب وانتماء وولاء جديدة لموقعها الجغرافي ولمحيطها الإنساني الجديد. في اعتقادي أن مشكلة شيعة الخليج تتشكل في ذاك التعاطف الشديد والارتباط المشاعري الديني بالدولة الإيرانية دون احتساب أثر ذلك على موقعهم كمواطني دول خليج. وقد سبق أن كتبت أنني حقيقة لا أعتقد بوجود مشكلة ولاء عند العامة الشيعية (وليس الخاصة السياسية الاستشكالية)، فهؤلاء محبون جداً لدولهم، مرتبطون نفسياً وجغرافياً واقتصادياً (كما أشار حيدر سابقاً كذلك) بها، إلا أن المشكلة في رأيي تكمن في هذا التعاطف والنظرة “النوستالجية” العاطفية الدينية للدولة الإيرانية وفي التعبير الواضح عنهما (من العامة كما من الخاصة السياسية) لا ريب من خلال مظاهر شديدة البيان عددها حيدر واختصرها في التالي: عدم توجيه نقد علني للسلبيات الإيرانية، مهاجمة منتقدي السياسة الإيرانية، سلبية القيادات والفعاليات الشيعية في توضيح الوضع للشباب الشيعي، غياب النقاش العلمي للمصالح الوطنية الشيعية خلال الانتخابات، مطاردة القيادات الشيعية التقليدية في الكويت واستبدالها بالملتزمة بفكرة الثورة الإيرانية، وغيرها من الأسباب والتفاصيل التي تستدعي العودة لمقال الأستاذ حيدر.
وعليه فإن الشارع العام الشيعي، بعيداً عن سياسييه، يحمل حباً وتعاطفاً غير مدروسين للدولة الإيرانية ولحزب الله، حباً وتعاطفاً لهما منطلقات عقائدية دون تفهم التداعيات السياسية لهذا التعاطف. فكل هؤلاء المواطنين الشيعة لن يتمكنوا في يوم من العيش في الدولة الإيرانية وتحت نظامها السياسي، كما أشار حيدر في مقالات سابقة له، فهم لن يتحملوا جو الاختناق السياسي والشخصي هناك، هم لن يستطيعوا التعايش مع مستوى الخدمات للدولة الإيرانية، هم ينتمون بكل ما فيهم للخليج: لغة وأصولاً وعادات وتقاليد وأساليب حياة (للمزيد حول ذلك مراجعة مقالات حيدر السابقة)، لذلك هم يحملون نظرة مثالية لدولة يصطافون فيها ويعيشون فيها “كالملوك” كما أشار حيدر في مقال الخميس، دون أن يستطيعوا أن يرسموا خطاً واضحاً بين خليجيتهم المسببة لهذه الراحة وبين حقيقة أن تعاطفهم الديني ونوستالجيتهم المشاعرية ستهدد راحتهم هذه واستقرارهم وموقعهم كمواطني منطقة الخليج.
ما أود قوله هو أن الولاء في الشارع الشيعي العام في رأيي، والبعيد عن القياديين والساسة والشباب المتحمس المغسولة أدمغته، هو ولاء عاطفي ديني لا تستطيع سذاجة أصحابه تقييم خطورته وتوضيح معناه وانعكاساته عند الآخرين، وهو ولاء منعكس في السياحة المستمرة وفي الدفاع السطحي المستميت لشارع لا يفقه انعكاس تصرفاته على محيطه، ولاء وحب ساذجان لكينونة مثالية خيالية ليس لها في واقع الحال السياسي وجود. ومن ثم تندمج مظاهر الولاء والحب الساذجين للشارع العام مع تحركات القيادات السياسية الشيعية المتزمتة لتخرج لنا الصورة الأخيرة، صورة الشيعة منقسمي الولاء المهددين للسلام الإقليمي، صورة ناقصة ومشوهة ولكن لم يصنعها سوى أصحابها في الواقع.
ولأن قول البديهي أصبح عادة لنا، فلا بد من التأكيد على أن حرمة بيوت المحكومين في خلية العبدلي يجب أن تكون مكفولة كما كانت حرمة بيوت المحكومين في تفجير مسجد الإمام الصادق، وأن التهديد بسحب الجنسيات للمحكومين وعائلاتهم غير مقبول مطلقاً ومن أي منطلق، إنسانياً كان أو سياسياً، كما كان من غير المقبول ذات التهديد للمحكومين في تفجير المسجد، ومازال حكم الإعدام مرفوض إنسانياً ونفسياً ومنطقياً وفي كل القضايا والحالات. لكن يبقى أن الموقف الشيعي العام، بخلاف أصوات شبابية متناثرة هنا وهناك، غير واضح من القضية ومن المحكومين فيها. لابد هنا وفي هذا الوقت المشتعل، أن نسمع الأصوات الشيعية القيادية تدين وتشد على يد الدولة وتساعد في البحث عن الهاربين.
وهنا تبقى نقطة أخيرة لابد من الخوض فيها رغم وعورتها، أنه ليس كل متعاطف مع “داعش” أو “القاعدة” أو “حزب الله” أو غيرها من التجمعات إرهابياً خائناً، “الإرهابية” ليست صفة سهلة للصقها بالإنسان المتعاطف أو الذي يجد وجهة نظر ما منطقية عند إحدى هذه الجماعات. في برلماننا الآن متعاطفون طالبانيون حتى النخاع، وقد هاجمناهم وقلنا فيهم الكثير، لكن “خونة وإرهابيين” لا. الخيانة والإرهاب أفعال حقيقية على أرض الواقع لا مجرد أفكار ومعتقدات، من حق الجميع أن يفكر ويعتقد كما يشاء طالما أبقى أفعاله مسالمة لا تمس أمن الوطن وسلامة الناس، لذا فإن محاولة لي ذراع كل من يرى أن عند “داعش” نقطة ما أو لدي “القاعدة” موقف حق ما أو لحزب الله موقعاً ما بتهمة الإرهاب والخيانة هي محاولة مرفوضة لا يجب الرضوخ لها الآن تحت ضغط الخوف وتبرئة الساحة الحاليين. من قام بأعمال بأسماء هذه الجماعات، تهدد الأمن هو خائن إرهابي، أما من يفكر، يفكر فقط، فهو، في رأينا السائد، مغسول دماغه، حائد عن الصواب، لكنه ليس إرهابياً وليس خائناً، لذلك، لا تستخدموا الأحداث الحالية، على الجانبين الشيعي والسني، للي الأذرع وقمع الفكر وإخافة الناس حتى من التفكير ومخالفة الرأي السائد.
للخروج من هذه الأزمة لابد من إحسان النية في زمن أسود لا مجال لرؤية أبيض صاف فيه، زمن خَطِر إحسان النوايا فيه لربما يمثل خطراً على الأرواح، لذا يقع دور كبير على قادة الطوائف الدينية، وأحدد تخصيصاً، على قادة الفريق الشيعي، الذين صنع منهم القدر أقلية تستوجب التعامل الحكيم مع موقعها وموضعها. خليل حيدر فصّل بحنكة أسباب تكرر المشاكل الشيعية في المنطقة، وقد حان أوان المواجهة الحقيقي مع النفس، التخلي عن دور الضحية، وتحمل مسؤولية المنحدر الذي تتزحلق الطائفة عليه