«مكسّر وفنيلة»
الناس أحرار، فمن شاء أن يلبس لباس البحر لبسه ومن شاء أن يسبح بالمكسّر والفنيلة سبح، والذي يمشي على الرجل يمشي على المرأة والعكس صحيح، وعلى كل من يمتلك صوتاً حراً في هذا البلد ألا يخاف معارضة هذا القرار «الفاضح» وألا يخشى التصريح بمبدأ الحرية وحق المرأة في اختيار مظهرها وممارسة حياتها.
لا، ليس الموضوع أن لدينا في الكويت مشاكل عديدة وتحديات كبيرة وأن اقتراح النواب ذاك سخيف جداً واهتماماتهم غاية في السطحية مقارنة بما تعاني الدولة وما هي مقبلة عليه، لا، ليست تلك هي المشكلة، ليست المعضلة في تفاهة المقترح النيابي ولا حتى في فرصة إقراره من عدمها، إنما في خطورة مضامينه، فاقتراح “منع لبس المايوه للنساء على شواطئ الكويت” ليس على أي درجة من التفاهة التي يصوره الناس بها، بل هو، على جانب كبير من الخطورة وعلى أكثر من مستوى.
أولاً، هذا مقترح يسلب الإنسان (المرأة في هذه الحالة إذا كانت تعتبر إنساناً بالنسبة إلى المقترحين) حق اختيار الملبس وحرية اختيار أسلوب الحياة. نعم، هذا حق للمرأة كما هو حق للرجل، لا تقل هي في استحقاقه ولا “أونصة”، وليس لطبيعة دين هؤلاء النواب ولا لفهمهم أي علاقة أو قدرة أو غلبة على حق المرأة المدني في الدولة المدنية. والملاحظ في الكويت (لربما مثل كل المجتمعات الإنسانية) أن قوة الرأي المجتمعي تغلب قوة القانون، فليس لدينا ظهور باللباس البحري للنساء إلا فيما ندر على الشواطئ العامة بسبب الطبيعة المحافظة للمجتمع وخوفاً من تعليقات الناس، ومعظم من يخترن هذا اللباس يستخدمنه على شواطئ الفنادق والمنتجعات الخاصة. إذاً فالمجتمع قد نظم الموضوع بنفسه وبقانون أقوى من ذاك الذي يحاول تفعيله المقترحون.
ثانياً، ترتكز قوة هذا المقترح على صعوبة مقاومته أو التضاد معه مما يجرئ هؤلاء النواب على الإعلان عنه بكل أريحية، فهذا مقترح يكشف مدى ازدواجية الحياة التي يعيشها “مساندو الحريات” في الكويت، حتى إنهم يحتاجون أن يغلفوا اعتراضهم للمقترح بألف تغليف، أولها وأسهلها أن البلد مليء بالمشاكل والمايوه آخرها، أي أنهم يعتمدون نظرية سخافة المطلب لا بشاعته الأخلاقية (مساساً بمن يختار هذا الملبس) واعتداءه الحقوقي (اغتيالاً لحق الناس في الاختيار)، وهذا يقوي جانب المقترحين الذين يعتمدون على ضعف الصوت الليبرالي وخفوته في الكويت (إن وجد)، وهو ضعف ناتج عن الخوف من الطعن في الكرامة والشرف والاتهام بمخالفة الدين ولربما الخروج عنه. ولأننا في مجتمعات شرف الرجل (الذي يقف حد ما يظهر من امرأته وما يخفى منها ولا علاقة له بالأخلاق الحقيقية ونظافة اليد وصلابة الأخلاق) هو أهم مقومات رجولته، فإن مقاومة مثل هذا المقترح أو الاعتراض عليه تصعب جداً لأنها توحي بمجتمع لا يستطيع أن يتفهم مقولة “قد أختلف معك ولكنني على استعداد للموت دفاعاً عن رأيك” بأن المعترض يدافع عن المايوه كملبس لا عن حرية اختياره حتى إن رفضه هو شخصياً.
ثالثاً، ينم هذا المقترح عن عمق الهوس الجسدي لبعض مشرعي هذه الأمة، وهو مرض وإن عاناه البعض، إلا أن المتوقع خصوصاً بالنسبة إلى الشخصيات السياسية العامة هو شيء من الحنكة والتحكم في هذا الهوس الذي أخذ مراحل متقدمة من العلنية بالدفع بتقنين الحريات العامة وتحجيمها، وبالعزل التام للمرأة وجسدها، وكأن كل ما تستجلبه المرأة في عقولهم هو الرغبة، وكأن كل علاقة بين رجل وامرأة تدور حول هذه الرغبة، وكأن كل النساء هي قطع لحم متحركة وكل الرجال هي ثعالب مسعورة.
وها هي المعارضة “المتطرفة” معزولة، والحكومة “النيرة” منشكحة كل الانشكاح في بيت الأمة، فأين التمدن والتقدم ومحاربة الرجعية والتطرف؟ يبدو أن أصدقاء الحكومة المتفتحين انغلقوا في سيرة تعيد ذاتها وتاريخ يكرر نفسه، فمن يجلس على يمين عرش الحكومة اليوم فسيجد نفسه في الشارع غداً مثلما حدث لبعض أطراف المعارضة “المشموت” بهم، ومن يشمت اليوم فسيُشمت به غداً في ظل حكوماتنا الرشيدة التي تطوحنا مثل كرات البحر الخفيفة في الهواء.
وعودة للبحر والهواء، فالناس أحرار، فمن شاء أن يلبس لباس البحر لبسه ومن شاء أن يسبح بالمكسّر والفنيلة سبح، والذي يمشي على الرجل يمشي على المرأة والعكس صحيح، وعلى كل من يمتلك صوتاً حراً في هذا البلد ألا يخاف معارضة هذا القرار “الفاضح” وألا يخشى التصريح بمبدأ الحرية وحق المرأة في اختيار مظهرها وممارسة حياتها. لنقف وقفة صريحة وكفانا خوفاً، فلا يسيء إلى سمعة الشخص منا كثر الرياء المرتعب والمواربة الذليلة لرأي واضح ومستحق.
“آخر شي”:
السيسي رئيساً، خلفه آلة عسكرية، عسى ألا يعيد التاريخ نفسه، فنحن العرب لدينا سوابق شامخة في تكرار تواريخنا الفاشلة.