تظاهرة أمام مقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، للمطالبة بقانون مدني للأحوال الشخصية
مفتاح
تحدثت السيدة ديانا مقلد، الكاتبة الصحافية ومعدة الأفلام الوثائقية، في تقديمها لإحدى جلسات قمة التنوع الديني والروحي الثانية (موضوع المقال الماضي) والتي أتت كجزء من “مشروع تعزيز التماسك الاجتماعي في المنطقة العربية” الخاص ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، حول ماهية المدخل العملي الذي يمكن من خلاله إصلاح الوضع الاجتماعي وترسيخ قيم التنوع والتعايش. وأكدت أن المدخل الوحيد هو عبر قوانين الأحوال الشخصية.
تقول مقلد إننا في عارض حديثنا عن الرجل والمرأة، نتحدث عن كائنين إنسانيين لا يتساويان في الحقوق والواجبات في مجتمعات يفترض أنها تكفل هذا التساوي. وتشير إلى انخراط مجتمعاتنا في تمدين عدة قوانين منها، على سبيل المثال، قوانين العقوبات وقوانين الأنظمة المصرفية وغيرها، إلا أن هذا التمدين لا يكاد يمسّ مطلقا قوانين الأحوال الشخصية وخصوصا عندما تتعلق بالنساء، وكأن عصرنة بقية القوانين في كفة، وعصرنه تلك الخاصة بالمرأة في كفة أخرى، كفة تودي، كما يروج “رجالات” الدين (والحديث هنا لي أنا) إلى الهلاك.
تبدي ديانا مقلد استغرابها قبولنا بمظاهر الحداثة في مختلف جوانب حياتنا إلا في الجوانب التي تخص المرأة، هذا الكائن الذي يبدو (والحديث لي مجددا) غير قابل للتطوير والتحديث. إلا أن استغراب مقلد هو استغراب رمزي، أشارت من خلاله إلى تلك الحقيقة التي نعرفها ونتجاهلها جميعا، ألا وهي أن المرأة هي مفتاح تشكيل موازين القوى في مجتمعاتنا المحافظة، وهي التي يجب أن تدفع ثمن استقرار السلطة في الأيادي ذات السبحات الطويلة.
إن مظهر المرأة، طبيعة عملها، قدراتها الاقتصادية وحتى تحركاتها المكانية، جميعها تدخل في باب الموازنات السياسية ومن منطلق استقراءات مواقع القوى والسلطة، فحجب المرأة شكلا ومكانا هو إفساح للساحة العامة و”حماية” لهذه الساحة الذكورية من المنافسة الاقتصادية أولا قبل كل شيء.
كما أن تعزيز سلطة الرجل حتى داخل الحيز الخاص، أي حيز البيت، هو ترسيخ لمفهوم السلطة الأبوية الممتد حتى على الحيز الأنثوي والذي تم تحديده من الذكور. أي أن الفكر الذكوري هو الذي حدد الحيّز “الحريمي” الذي يمكن للمرأة أن تتحرر فيه بعض الشيء وتمارس فيه بعضا من السلطة، ثم فرض سلطته العظمى حتى على هذا الحيز المعزول.
وعليه، لا بد من التأكيد هنا أن المرأة لن تحقق التساوي الإنساني الكامل (مع التحفظ على تنصيب الرجل مقياسا للحقوق) والكيان المدني المستقل إلا بتغيير قوانين الأحوال الشخصية إلى قوانين كاملة المدنية تضمن للمرأة حقوقا وواجبات متساوية تماما مع الرجل من حيث سلطاتها المنزلية، وولايتها على أبنائها، وسلطتها في البقاء أو الخروج من هذا الزواج بكامل حريتها وإرادتها، وتساوي حقوقها في الميراث، وهو الموضوع الأكثر شائكية نظرا لما يبنى عليه من مفاهيم القوامة التي يتمتع بها الرجل.
لن يتحقق الإصلاح المجتمعي بصورة واضحة وخالصة ونهائية إلا بتغيير وضع المرأة، بإصلاح موقعها ومخاطبة مشاكلها أولا وقبل كل موضوع آخر في المجتمع.
فإذا ما تحققت للمرأة الحرية الكاملة والمساواة الكاملة، كأن تدخل وتخرج من عقد زواجها بكامل حريتها على سبيل المثال، ستستقر الكرامة الإنسانية في أرفع صورها في وجدانها، ولن تسائل نفسها ولن تتشكك في قيمتها الإنسانية ولن تُقسر على الإيمان بضعف جنسها وبحاجته المستمرة إلى المراقبة والوصاية.
إن أسوأ ما يمكن أن تأتي به جماعة هو إقناع أحد، أو مجموعة، من أفرادها بقصورهم وتخلف قدراتهم وهبوطهم إلى الدرجة الثانية من القيمة الإنسانية، وهو إقناع يدور على المرأة منذ مئات (وربما آلاف) السنين، بدأته احتياجات بدائية حياتية وعززته تقاليد بالية وقراءات دينية ذكورية مالت حتى كادت تسقط على وجهها تجاه مصالح الذكور وتعزيز سلطاتهم.
مفتاح الإصلاح موجود في الداخل، داخل الحيز “الحريمي” الذي يحتاج الى أن يتحول إلى حيز “إنساني” لا سلطة فيه لأحد فوق أحد ولا علو قيميا أو عقليا أو اقتصاديا أو اجتماعيا فيه لبشر على بشر. حتى ينصلح الخارج، لا بد من إصلاح الداخل وتنظيفه من كل مظاهر التعسف والظلم والتسلط، وإلى أن يحدث ذلك، سيبقى الخارج معطوبا بآلام الداخل ومظالمه.