مفارقات نفسية
في مقابلة أخيرة لي عبر تطبيق «بودكاست» صوتي ومصور عبر «يوتيوب»، تكلمت عن ضرورة وجود قراءات دينية جديدة، خصوصاً فيما يتعلق بالمسائل الحياتية الاجتماعية للمرأة، لا بد من رؤى دينية جديدة في مواضيع الطلاق والإرث والحضانة وغيرها تنظر إلى الجنسين بعين المساواة، على أنهما كائنان إنسانيان دون تفرقة على أساس الجنس. بالتأكيد، أثار هذا الرأي -كما فعل سابقاً وكثيراً عند طرحه- ردود فعل قوية وغضباً كبيراً، وهما مفهومان تماماً ومتوقعان ومقدران، إلا أن غير المفهوم، رغم أنه متوقع كذلك، هو كمية السب الذي يصل حد القذف تجاه أي رأي حول قراءة دينية خارجة عن المألوف. أسباب هذه المنهجية غير مجهولة، وأغلبها مبعث للتعاطف في الواقع لا الغضب، فالعنف الجسدي واللفظي لا يستدعيه سوى خوف عارم أكاد أستشعره في قلوب المتدينين المعارضين لهذا التوجه، هو عارض لخوفهم على عقيدتهم وصورة من صور حمايتهم لها، فالخوف أكبر دافع للعنف. كل هذا أعرفه وأتفهمه، إلا أن الغريب والمتناقض -مرة أخرى رغم فهمي للدوافع- هو أن ينتهج الإنسان منهجاً «غير أخلاقي» للدفاع عن «منظومته الأخلاقية»، أليس التناقض واضحاً؟ ألا تفلق المفارقة عين الشمس؟
من التعليقات الواردة المتكررة كذلك تعليق أنني لست ذات صفة «دينية علمية» للحديث عن الفحوى الديني، وهو تعليق يستحق التأمل بحق، فمنطق حكر قراءة النص الديني وتفسيره على «المختصين» الذين هم عادة «كهنوت» ذكوري (وإن كانوا أحياناً إناثاً بيولوجياً) هو أحد أقدم الحجج الشمولية الديكتاتورية التي يقبض من خلالها «الكهنة» على أعناق البشر ليسيروهم في الطريق الذي يختارون، ومع ذلك، لا تزال هذه الحجة الموغلة في القدم والتخلف مطروحة ومن الأفراد العاديين بحد ذاتهم، وكأنهم يسلبون من أنفسهم حق التفكر والتدبر والنظر في النظام الأخلاقي الذي «اختاروا» أن يعيشوا حياتهم وفقه. أحد المعلقين أرادني أن أبقى «شجاعة وجسورة» فإما «نقبل بكلام الله وحكمه. . . أم لا نقبل، ونسعى لتشريع مدني نرتضيه نحن ولا نلزم نفسنا لا بقرآن أو إنجيل أو غيرهما». هنا تظهر إشكاليتان: الأولى تتجلى في سؤال حول مصدر معرفة هذا الشخص الكريم بحكم الله؟ كيف قرر أن تفسيراً معيناً في حد ذاته هو حكم الله دون غيره؟ أما الإشكالية الثانية فتتجلى في التسطيح الساذج للفكرة. فأنا هنا لا أقول بالسعي لقراءات متجددة للنص الديني حتى يتم التشريع طبقاً لها، فالتشريع طبقاً لأي تفسير لنص ديني مهما بلغت درجة تطور هذا التفسير وعدالته يحمل الإشكالية ذاتها من حيث إعلاء كلمة دين ما على ما عداه من أديان ومذاهب أخرى بين فئات الشعب الواحد، وعليه ممارسة تمييز ديني خطير العواقب. إنما المقصود هنا أن يكون التشريع المدني العلماني البحت، الذي هو الحل الأوحد الذي توصل له البشر حالياً لمعالجة معضلة الصراع الديني والمذهبي، مصحوباً بثورة فكرية تسانده وتثبت قواعد حكمه، وذلك عن طريق إعادة قراءة النصوص الدينية لتجديد فهمها وتفسيرها بشكل أكثر تواؤماً مع المنظور السياسي الديمقراطي الحضاري الحالي. ليس الهدف من إعادة قراءة النصوص الدينية هو التشريع على أساسها إذن، إنما الهدف هو تحقيق ثورة فكرية تنهض بالمجتمع من جهة وتعزز النظام السياسي المدني المحايد من جهة أخرى.
تعليق طريف وصل من أحد المغردين، لامني فيه على تعليقي على الشتائم قائلاً: «منو قال إن المتدين لا يخطي ولا يسب، إذاً لماذا وجد الاستغفار والتوبة، إحنا مو أنبياء ولا رسل بشر فقط نخطي ونصيب…»، وهو تعليق رغم طرافة تبرير الشتائم فيه (وركاكة صياغته) إلا أن فيه جانباً أخلاقياً استشكالياً مهماً جداً، ألا وهو جانب المخرج الديني للأخطاء المؤثرة، حيث ينتاب المؤمن شعور مستمر بالأمان؛ أن مهما أخطأ فإن هناك استغفاراً يمسح خطاياه، أو نظاماً معيناً «يصفر له عداد الحساب». إن هذا الشعور بالأمان في ارتكاب الخطأ يتأتى دوماً من شعور بالفوقية، فأنا أحق بارتكاب الخطأ أولاً لإنني دوماً على حق، والغاية تبرر الوسيلة مهما ساءت، وثانياً لأن لدي مخرجاً يمسح هذا الخطأ مهما كان مؤذياً أو خارجاً. مبهرة جداً هذه الفكرة التي تبرر ارتكاب كثير من الشنائع تحت مبرر الحفاظ على المنظومة الدينية وبحماية من «سيستم» فيها يمسح هذه الشنائع ويخلص الإنسان منها، فكرة مذهلة تبين كيف يستطيع الإنسان أن يكيف بأريحية المخارج التي تمكنه من ارتكاب أخطائه وتبريرها، بل واستحسانها إن استدعى الأمر.
أما أحد أكثر التعليقات سذاجة فقد أتت سائلة، بعد التأكيد مرة أخرى على شجاعتي التي لا أعرف فائدة الإشارة المتكررة لها من قبل المغردين، عن مدى محبتي لصحابة معينين. تمعنت كثيراً في السؤال الذي طرح تساؤلاً حقيقياً في نفسي: لو أنني فعلياً في مكان السائل، أفكر من منطلقاته وأشعره بنفسيته، ترى.. ما كان يهمني من إجابة هذا السؤال؟ ما أهمية أن أحب أو لا أحب أفراداً معينين؟ كيف سيجعلني ذلك أكثر أو أقل إيماناً؟ وما أهمية إيماني من عدمه أصلاً للسائل الذي لا يعرفني، وربما لن يراني في يوم؟ إلا أن الجانب الأهم من السؤال هو أن صاحبه يعرف أن الرد العلني عليه لا يحتمل سوى إجابة واحده، فغيرها قد يوردني المهالك، فما فائدة طرح سؤال لا يملك الطرف الآخر حرية الرد الحقيقي والمستريح عليه؟ كيف سيكون للإجابة تأثير إذا لم تكن هناك بيئة تتيح ظهورها بصدق وأريحية؟ كيف سيحكم السائل على صدق أو كذب الإجابة أصلاً وهي لا تحتمل إلا وجهاً واحداً؟
أتفهم منطلقات كــــل هؤلاء المتواصلين، لكنني لا أزال، حقيقة، مبهورة بتوجهاتهم التي تشكل مادة جيدة للبحث النفسي العلمي: لماذا نحارب حروباً أخلاقية بشكل غير أخلاقي؟ كيف نتجرأ على تبرير لا أخلاقياتنا بدافع من إيماننا بأخلاقية الموضوع محل الدفاع؟ كيف نرضى بتحقيق انتصارات عن طريق إسكات وإحراج الآخرين وتعريضهم للخطر؟ غريبة العقلية المتدينة العربية، فهي أحد أواخر العقليات التي لا تزال تحمل السيف لنشر العقيدة في القرن الحادي والعشرين.