مصر يمة يا سفينة
في ظل «الثورة على الاحتقار» كما يسميها د. يوسف زيدان، تلازم بروعة حزينة صوت إطلاق الرصاص والغناء، الدموع والضحكات، الهتافات والدعابات، جدية الموت وهزلية القفشات والنكت، والتي جميعها أعطت هذه الثورة بعداً إنسانياً مهيباً سمح لنا أن نتعامل معها على أكثر من مستوى، فمن ناحية هي ثورة عربية قومية شرق أوسطية لا تغير فقط التاريخ السياسي، لكن بعمق أكثر التاريخ الأيديولوجي للمنطقة، ومن ناحية هي ثورة إنسانية يقاوم من خلالها الإنسان ليس فقط الظلم و»الاحتقار» والقمع لكن كذلك الضعف والرضوخ واعتيادية الأسى، هي ثورة قاومت مخاوف الموت، فاستهزأت به و»نكتت» عليه. وللدعابة المصرية طعم مختلف، قارصة قاسية سريعة المفعول، وهي حاضرة دوماً لتخفف من عمق المشكلة، مظهرة الوجه الآخر لها من حيث غرابتها وغياب منطقيتها.
في آخر فيديو دعابي وصل من ميدان التحرير، يقيم بعض الشباب المصريين حفلة زار «لصرف» الرئيس، وبسخرية حارقة يعلق الشباب: «اعتصام واعتصمنا، هتاف وهتفنا، موت ومتنا، وبرضو مش عايز يمشي، إذن نعمل حفلة زار يمكن ينصرف». يدور الشباب في حلقة مرددين على طريقة الدراويش «ارحل، ارحل» وهم يهزون الرؤوس يمنة ويسرة رافعين أصابعهم المرتجفة فوق رؤوسهم في منظر كوميدي ساخر بسخرية الموقف، متناقض بتناقضه، ومتأس بأساه. يشير هؤلاء الشباب «بالسكتش» هذا إلى هذه الصبغة الخارقة التي يضفيها عالمنا الشرقي على حكامه، فيصبحون «سوبر» بشر لا يطولهم ما يطول البشر العاديين من ألم، مرض أو موت. متى سمعنا آخر مرة بتقرير حقيقي عن الحالة الصحية لحاكم عربي؟ متى تحدث إلينا أحدهم بلغة إنسانية فيها ألم أو ندم أو اعتذار؟ يحيط هؤلاء الحكام أنفسهم بأسوار عالية من السرية والغموض تضفي عليهم هذه الهالة الخارقة التي لا تلبث أن تكبر وتقوى حتى ليظهر لنا أننا جميعاً سنموت قهراً وسيبقى «هو» في قصره لا يأتيه وهن أو موت.
وها هو الشباب المصري يخترق هذه الهالة ويكسر هذه الفكرة المرعبة «لعصمة» الرئيس من الأذى أو الموت، وفي هذا الاختراق نقد قاس للنفس كذلك، ندم على سماحهم لهذه الفكرة أن تعشش في النفوس والرؤوس، سخرية من الذات الساذجة التي سمحت «لأنا» إنسان أن تتضخم وتنتفخ بهذه الصورة حتى اعتقد ليس فقط بخلود منصبه، متمثلاً في محاولة توريث هذا المنصب، ولكن بخلود روحه كذلك، متمثلاً في هذه البلايين المتكومة في الحسابات الشخصية التي لن يكفي عمر إنساني لصرفها والتمتع بها.
بالإصرار، بالهتاف، بالدموع والضحكات، بالبكاء والغناء، سقط عن الحكم من سقط من حساب الشعب… ذات المصريين الذين صنعوا التاريخ قبل سبعة آلاف سنة بتأليه حكامهم، هم من يصنعون التاريخ اليوم بإسقاط هذا التأليه واستبداله بمقدس آخر، المقدس الديمقراطي الإنساني… اليوم مصر تعلن أن المواطنة المبنية على الحق الإنساني في العدالة والحرية والمشاركة في صنع القرار هي خيارها الوحيد، وبالتالي هي خيار الأمة العربية بما لمصر من دالة ومكانة عند هذه الأمة… كل تغيير تصاحبه العواصف، ومعها قلق على المكتسبات، على الأرزاق والأرواح، على القادم المجهول، ولكن كل العواصف والمخاوف ما هي إلا ثمن قليل للحياة الجديدة التي يطالعها عن بعد الثوار الأبطال، لا يلتفتون للعوائق على الطريق، لا تعميهم الشمس في عيونهم، ولا يلهيهم السراب في المدى، هم يتطلعون لما هو أبعد من كل ذلك، لمستقبل مرسوم بأياديهم، «صنع في مصر»، وليس مستورداً على قياسات لا تستوعب الجسد المصري العظيم.
نجحت حفلة «الزار» وانصرف الماضي الطاغي، وها هو المستقبل «يحضر» بعد أن بخر له الشعب وصلى، بعد أن كافح وصرخ وبكى، بعد أن سخر وضحك وغنى… أيها الثوار الأبطال استمتعوا بهذه اللحظات البهية، فهي تحفر التاريخ. يصرخون بكم من كل جنب «وماذا بعد؟» يحذرونكم ويخيفونكم، وقبل أن تلتفتوا «لما بعد» وقبل أن تطغى المحاذير والمخاوف، تعمقوا في اللحظة واستنشقوا كل نسمات انتصارها، افرحوا من قلوبكم، واصرخوا فخراً وكبرياء، فهما مستحقان بحق كل ثانية قضيتموها في شوارع مصر الشتوية. هذا الزمان ملككم، فعيشوه فرحاً وغناءً بل غروراً، ونحن ها هنا، نفرح معكم ولكم، ونرد لكم «الكوبليه»: «مهما كان البحر عاتي، فلاحينك ملاحينك يزعقوا للريح يواتي».