مد حريتك على قدر لحافك
أقام محام كويتي دعوى أمام المحاكم الكويتية لحجب «نتفليكس» في الكويت، وذلك امتداداً للغضبة العربية على إثر عرض فيلم «أصحاب ولا أعز» الذي ناقش عدداً من التابوهات التي لا يزال العالم العربي يدعي غيابها التام عن مجتمعاته المختلفة. الغضبة العربية وصولاً لدعوى الحجب، تستعرض بوضوح المنطق العربي في التعامل مع المعضلات الأخلاقية والأزمات الفكرية في عالمنا، الذي ينحصر في مفهوم «يا تطخه يا تكسر مخه» حيث دوماً ما تذهب «حلولنا» أو بمعنى أدق «عقوباتنا» للبعد الأقصى الذي من شأنه، أو الذي نعتقد أنه من شأنه، أن ينتزع المشكلة من عروقها. الناتج عادة يكون تأزيماً وتعقيداً وصراعاً، يأخذنا من حيز مشكلة قابلة للحل إلى أزمة معقدة لا حل لها، من عقبة في الطريق إلى حاجز سد نزينه نحن بمحاولات القمع والمنع والبتر. لا نعرف وسطاً رغم أننا نكرر أن «خير الأمور أوسطها» ولا نترك لأحد حريته رغم أننا نكرر «موسى بدينه وعيسى بدينه». ولأننا نقول ما لا نطبق باستمرار، نحن في أزمة مستمرة.
بلا شك، فكرة المنع أو الحجب اليوم هي فكرة ساذجة بخلاف أنها فكرة مهينة تماماً. الفكرة ساذجة لأنه حتى الصغار يعرفون كيف يرفعون الحجب ويستخدمون المواقع التي توصلهم إلى مرادهم «الإنترنتيّ» والفكرة مهينة لأنها تنطوي على مفهوم الحاجة المستمرة للوصاية، وكأننا جميعاً من أكبرنا إلى أصغرنا غير قادرين على تقرير المناسب لنا وغير متمكنين من ضبط أخلاقياتنا، في حين أن هناك من هو «مضبوط أخلاقياً» ممن يَستوجِب عليه تسلم زمام أمورنا. نحن نفترض وجود عالم مثالي الكل فيه يتخذ «القرار الصالح» والكل فيه «ملتزم أخلاقياً،» ونحن مصرون، نحن البقعة الأكثر استشكالية في العالم على تحقيق وجود هذا العالم المثالي ولو بالحديد والنار. نحن في العالم العربي نحب الحزم والضبط والربط، نريد حكومة تعاقبنا وسلطة دينية تضربنا على قاع أقدامنا حين «نمدها لأبعد من ألحفتنا». فكما نحن بحاجة مستمرة لمخلص يقودنا للانتصار، نحن بحاجة مستمرة لرقيب يحمينا من أنفسنا ويضبط تصرفاتنا. هذا بخلاف أننا كسالى، لا نفضل بذل الجهد في مراقبة الأبناء أو في توجيههم أو إقناعهم. فعوضاً عن متابعتهم أو مناقشتهم، الأسهل أن تقطع الحكومة وأن يحرِّم رجل الدين، فنتخفف نحن من المسؤولية والدور.
«نتفليكس» يوفر رقابة عمرية، أي أنه يقدم معلومة حول العمر المناسب تقديراً على المادة المرئية. و«نتفليكس» هو موقع متاح إشتراكاً، هو ليس مفروضاً على الناس بل وليس متاحاً مجاناً، من يشترك في الموقع يذهب إليه بمحض إرادته، لا تحت تهديد سلاح ولا وهو مغمض العينين، وبذات الإرادة يدفع من حر ماله ليصل لمادة الموقع. و«نتفليكس» يوفر تنوعاً من المواد المرئية، للإنسان أن يختار «حميدها» وأن يلفظ «سيئها» دون قيد أو فرض. و«نتفليكس» لا يُقارَن بالقوات الفضائية وموادها المتوفرة تقريباً في كل بيت والمتاحة بشكل أسهل بكثير للجميع. لماذا إذن ننحو لعداء ساذج ولإجراءات كوميدية تعاملاً مع موضوع له عمق وجدية؟
أتفهم حقيقة استياء المشاهد العربي، بل أتفهم استياء وضيقة أي مشاهد في أي بقعة في العالم من مادة مسموعة أو مرئية أو مكتوبة تخالف مبادئه الراسخة وتختلف مع عمقه الإيماني الذي يشكل شخصيته وهويته. ما لا أتفهمه هو انفعالنا بحلول ساذجة عقيمة وكسلنا المريع الذي يدفع بنا لمثل هذه الحلول المضحكة. نحن بالعموم نخشى الحرية، نخاف إتاحة الخيار، نحن شعوب تفضل أن «ترميها برأس عالم وتبقى سالمة» حتى يتحمل هو المسؤولية والعقوبة، ويبقى المتلقي مقاداً، خالي مسؤولية، مجرد تابع لا يتحمل «وزر» الفكرة ولا نتائجها.
فضيلة الاختيار ملك لنا بحكم إنسانيتنا، هي التي تعطي بعداً لحيواتنا وقيمة لاختياراتنا. ما معنى أن تأتي خيراً أنت مجبر عليه؟ لم تستحق حسنة على تجنب معصية لم يكن لك خيار ارتكابها أصلاً؟ نحتاج الإتاحة، حتى نستطيع أن نختار، حتى تتطور عقولنا وشخصياتنا، وحتى نستطيع تحمل المسؤولية، وحتى نصبح بشراً فاعلين في هذه الدنيا. لماذا نخشى الاختيار الأخلاقي؟ لماذا نود دوماً أن «نلقيها برأس عالِم» فننفي عقولنا ونحرم أنفسنا حق تقرير مصائرنا في أهم مكونات حياتنا، مكون الأخلاق الذي يصنع جزء كبير من الهوية؟
حاربوا «نتفليكس» احجبوه، لا تحجبوه. لا علاقة لكل هذه الانفعالات الطفولية بالإصلاح الأخلاقي، ولن يؤثر في منظومته شيئاً. الإصلاح الأخلاقي يتجلى في النصيحة لمن يطلبها ويرغب فيها، لا في الفرض على من لم يطلبها أو يسعى لها. الفرض يفضي للتملص، ونحن نحيا معظم حيواتنا متملصين مراوغين. تعبنا والله.