جمجمتان تعودان للهومو نيانديرثال، في متحف التاريخ الطبيعي في واشنطن
مجرد حلم
رأيت في ما يرى النائم حلما غريبا، وكشفت في ما يكشف المستيقظ عن حكاية الحلم عبر تويتر، فكان أن جاءت التعليقات غريبة غرابة الحلم، غاضبة غضب النفس العربية، متناقضة تناقض معظم المجتمعات المتدينة التي ترتفع فيها نسب الفساد طرديا مع درجة التدين والمحافظة.
رأيت في ما يرى النائم أن لعبة بلاستيكية متعددة الألوان قد ظهرت للتو في الأسواق، تحكي اللعبة قصة الانفجار العظيم وتعطي الأطفال فرصة للتعرف على النظرية عن طريق اللعب الإلكتروني. الغريب أنني رأيت علبة اللعبة جلية في الحلم، والأغرب أنني لا أزال أتذكر شكل العلبة ولونها بوضوح: علبة لها خلفية سماء زرقاء، مصور عليها طفلتان في عمر الثمانية تقريبا وقد وجهتا ظهريهما للصورة لتتدلى من عليهما أسلاك وأجهزة للتحكم عن بعد والتي هي أدوات هذه اللعبة.
أتذكر مشاعري أثناء الحلم، حيث تمنيت الحصول على أحفاد حتى أستطيع شراء هذه اللعبة لهم واللعب بها معهم.
لا أعرف تحديدا مسببات الحلم ولا الحادثة التي حدثت في صباحي لتبعث الحلم حيا مشوقا في ليلتي تلك، لربما هو وجع قلبي كلما سألت طلبتي في الجامعة عن مدى معلوماتهم عن نظرية نشأة الكون أو عن نظرية التطور أو عن اسم العالم دارون، حيث دائما ما تأتي الإجابات بمعرفة سطحية أو معدومة بهذه النظريات وباسم هذا العالم الذي يعتبر الأهم في القرنين العشرين والواحد والعشرين.
كل ما لا يزال وعيي يختبره كنتيجة للحلم هو شعوري الغامر بالفرحة حين مسكت علبة اللعبة بين يدي، حماسي للعب هذه اللعبة، وتشوقي للحصول على حفيد، بعد أن كبرت آخر العنقود وخلا البيت من الصغار.
المثير في الموضوع هو ما حدث بعد الحلم، وبعد أن كتبت عنه بحماسة الصباح الباكر في حسابي على موقع تويتر. فما بين محاولات غيبية لتفسير الحلم وتعليقات جادة حول النظرية المذكورة به، أتت تعليقات عدة تستغفر حلمي هذا وتبسمل وتحوقل في تويتر لتقي هذا التطبيق الإلكتروني شر كوابيسي.
من المغردين من طلب لي الهداية؛ ومنهم من حذرني أن حلمي “هذا يخالف الدين”؛ ومنهم من اتهمني بدس السم بالعسل (لا أعرف كيف تحديدا)؛ وآخرون نبهوني إلى أن هذا تحذير من الله وإشارة لخلل في العقيدة.
أقرأ التعليقات وأتساءل: كيف كبر حلمي إلى هذا الحجم ليتحول إلى إشارة سماوية؟ ما هي أهميتي وانفراديتي التي تؤهلني لاستلام رسائل تحذيرية شخصية؟ وبأي ذنب أستلم هذه الرسائل، فقط لاهتمامي بالعلم وتجاوبي وأدلته؟
لا أعرف تحديدا كيف سيكون لنا في يوم ما دور في تطور العلوم والمعارف إذا كنا نضع عصبة سوداء على أعيننا رافضين ما يأتي به العلم من نظريات بدلائلها.
نظرية نشأة الكون لها قراءات وأرقام وإشارات ضوئية وموجية ورقمية يمكن للعلماء قراءتها اليوم. ونظرية التطور الداروينية لها دلائل مادية ملموسة يمكن رؤيتها في متاحف الفن الطبيعي حول العالم، ليس أقلها ببقايا أنواع مختلفة من البشر سبقت أو تعايشت مع جنسنا من الهوموسبيان مثل النيانديرثال والهومو إيريكتوس وغيرها.
وجد العديد من الثيولوجيين المسيحيين طرقا لمصالحة الدين مع العلم ولإعادة قراءة وتفسير وتأويل النظريات الدينية لتواكب التطور العلمي، وكذا يفعل قلة قليلة من الثيولوجيين الإسلاميين اليوم؛ إلا أن الأغلبية الإسلامية العامة غاضبة حانقة، صنعت من العلم ندا لدينها ومن العلماء أعداء لفكرها. جهد نفسي وعصبي يهدر حنقا على العلم الحديث ومعاداة للدلائل والإثباتات وسيرا عكس التيار، عوضا عن توفير هذا الجهد كله لإعادة القراءة والتفسير لمواءمة الأفكار الدينية مع العلوم الحديثة ومخرجاتها، مما له أن يدفع بالمجتمع للأمام وأن يأتي بالمفاهيم الدينية لظروف ومعطيات الزمن الحاضر في حالة من الود والوفاق التي ستدفع بالطريقين العلمي والروحاني للالتقاء والارتقاء.
بالطبع ليست هذه النظريات العلمية، كنظرية نشأة الكون أو نظرية التطور، بنظريات مقدسة بالنسبة لي أو لغيري من المؤمنين بالعلم. هي نظريات علمية، مثلها مثل نظيراتها، تبقى محل شك دوما، لكنها تبقى “بريئة” برصانتها العلمية الى أن تثبت إدانتها بنظريات أصح وأكثر تطورا منها.
لا قداسة لفكرة أو لشخص في العلم، فالتساؤل والتشكيك في النظريات العلمية هما أصل من أصول العلم، لا ينطويان على إهانة لشخص المؤمن بهذه النظريات أو مس بكرامته أو حتى مجرد إزعاج لعقله. الغريب والمزعج هو الاعتقاد أن أي تداول لهذه النظريات العلمية لا يهدف سوى للضرب في الدين والتشكيك في قيمه، وهو اعتقاد، لو يعلم أصحابه، ليس سوى مشكك بالدين ومرغم له بفلسفته الروحانية على مواجهة العلم، هذا الحقل الصارم الجاف البارد الذي لا يعرف مجاملة أو مشاعر أو قداسة.
غريبة ومزعجة ردة الفعل العربية الإسلامية العامة تجاه العلوم الحديثة، ليس فقط لأنها ساذجة ومضحكة ومضرة بالدين ذاته، ولكن لأنها دالة كذلك على المسافة البعيدة بيننا وبين العلوم الحديثة، وعليه، بيننا وبين التطور واللحاق بركب الحضارة المعاصرة. إذا كنا لسنا فقط نرفض ونكذب نظريات لها أرقام ودلائل مادية، بل ونزيد على ذلك أن نعنف ونتهم ونكفر من يتجرأ فيتحدث مجرد الحديث البسيط عنها، فأي حياة نحن نحيا وفي أي برزخ نعيش؟
حلمت مجرد حلم أنني ألعب في لعبة ملونة تعلم الأطفال نظرية الانفجار العظيم؛ مجرد حلم، لا يد لي فيه ولا ذنب، لربما لي فيه رغبة عميقة وتوق وإيمان! نعم أعترف؛ ولكن ما ذنبي في قناعاتي وما إرادتي في أحلامي؟