متى نخبز كيكتنا؟
من أكثر ما يثير الانتباه عند الحديث عن العلمانية، الاسم الفلسفي لمفهوم المدنية، هو إصرار الفئة المعارضة على أنها استيراد غربي يراد به غزونا فكرياً في محاولة لفصلنا عن تقاليدنا الخاصة الضاربة في الأعماق.
أولاً، أتساءل: ما المشكلة في استيراد فكر من صنع بشر آخرين إذا كان طيباً ومفيداً لمجتمعنا؟ وثانياً، هل تستحق تقاليدنا العريقة هذا الدفاع المستميت لإبقائها في حالتها «الستاتيكية» الميتة سريرياً؟ عوضاً عن الدفع «بتطبيعها» مع الزمن؟ وثالثاً، وهو الأهم، كيف يمكن لأي قارئ، ولو كان مبتدئا، أن يقتنع ويحاول أن يقنع الآخرين، أن العلمانية هي ببساطة فكر أوروبي كلاسيكي نتج عن التسلط الكنسي، ماسحاً تأثير الحضارات الـ»ما قبل» والـ»ما بعد» أوروبية، هكذا بكل بساطة ولا مبالاة؟ بلا شك، إن الشكل الأخير للتطبيق السياسي للعلمانية، هو نتاج ممارسة أوروبية مناضلة منذ القرن الرابع عشر وإلى بدايات عصر الحداثة، حيث استقر المبدأ وأخذ شكله السياسي البرلماني والدستوري الحديثين ضمن الأشكال الأخرى المدنية في الدولة. إلا أن صراع القوى بين الدين والسلطة هو صراع بدأ مع بداية البشرية، ومع بزوغ الحضارات الأكثر تنظيماً، بداية من حضارة بلاد الرافدين، إلى المصرية إلى الفارسية، إلى الشرق آسيوية، إلى الإغريقية والرومانية، تصدرت صراعات أكثر خطورة بعد أن كبرت الحصة المتصارع عليها، والتي على إثرها حاول البشر تنظيم خلافاتهم وإيجاد سبل تعايش بينهم. فأتى حمورابي بابل بقانونه الشهير الذي نظم أول العلاقات المدنية بين البشر مشكلاً أول قانون وضعي في الدنيا، وهو قانون على مساوئه وتفرقته بين السيد والعبد، فإنه كان محاولة بشرية تنظيمية فارقة. وعند النظر إلى جيرانهم في الحضارة الفارسية نجد أنهم كانوا معروفين بإنجازين مهّدا للنجاح الكبير لهذه الحضارة: الأول كان بتعبيد الطرق بين المدن الفارسية، وهو ما سهل التواصل ونقل الأخبار، والثاني هو غرس صفة التسامح التي من خلالها توسعت الإمبراطورية الفارسية، وفرشت قواها على جوانبها دون قلاقل تذكر، وهي المنهجية الجذرية للفكر العلماني.
الحضارة المصرية كانت مشهورة، على الرغم من سيادة طبقية فاحشة في أراضيها، بالمساواة بين الجنسين وهي فضيلة مهمة كأحد أسس الفكر المدني، كما أن الحضارة المصرية عانت صراعاً دينياً مريراً بين فراعنتها علّمهم درساً جعل من أرض مصر كينونة سياسية مميزة في إفريقيا.
والحديث عن الحضارات الشرق آسيوية شيق جداً، فإبان تطاحن البوذية والهندوسية والكونفوشية والتاوية والزن وغيرها، حاول المفكرون، ومنهم فلاسفة هذه الأديان بحد ذاتها، إيجاد مداخل سلام، فكانت تعاليم البوذية المؤكدة أن الوجود في حد ذاته معاناة، وأن التخلص من هذه المعاناة يستلزم طريقا له ثماني طيات تدعو إلى تنقية السريرة وأخلاقية التصرف، ثم كانت تعاليم الكونفوشية التي تعد «محبة الإنسانية» أحد أهم أعمدتها، وعزل الديني عن الدنيوي حيث كان كونفوشيوس يقول «لم نفهم بعد الحياة، فكيف نفهم الموت؟» في رفض قاطع منه لمناقشة مبدأ الحياة بعد الموت كعامل مؤثر في الرؤية الدنيوية، والتاوية التي تقوم على مبدأ اعتزال السياسية و«الترقرق» في الحياة كما الماء، الذي قد نعتقد أنه طفيف التأثير، ولكنه مع الزمن ينحت الصخر. كل تلك الحضارات حاولت أن تجد طريق سلام بين المعتقدات السائدة لديها، وكذلك بينها وبين تلك المتنامية عند جيرانها في محاولة جادة للتعايش وإنهاء الصراع الدموي الأزلي بين البشر. الحضارتان الإغريقية واليونانية كان لهما كبير الأثر في مسيرة تطور الفكر العلماني.
فقد خلقت الحضارتان علاقات غريبة مع آلهتها، ثم عزلت هذه الآلهة عن الحياة العامة، فالإغريقي أو اليوناني لا يصلي لآلهته لتنقذه، فالحياة الدنيا مسؤوليته وعليه هو إصلاحها، في صدى قوي للفكر الكونفوشي الداعي إلى المبدأ نفسه، وإن اختلفت طرائقه. وعليه، ومنذ البداية ومروراً بالحضارات البازغة المختلفة، حاول البشر فلسفة سبل التعايش، وإيجاد حلول وسط، وتقنين العلاقات وترتيبها بعد أن سالت بحور الدماء بسيادة منطق الغاب الذي كان يعلي الأقوى ويقهر الأقلية مستخدماً الدين كأداة رئيسة في هذا الصراع المقيت.
من امتداد هذه الحضارات وتصارعها الفعلي والعقلي والفلسفي تخمرت فلسفة العلمانية ثم دخلت فرن النهضة الأوروبية الحديثة، ونحن في مكانك سر، نلتهم «الكيكة» الأوروبية اللذيذة، نلعق كريمتها الملتصقة بأصابعنا ثم نلعن أسلاف من صنعها… إلى متى؟!