ما بعد «الرحلة 422»
اختفى مسلسل «الجابرية: الرحلة 422» من على منصة شاهد كما تختفي الحريات العربية وأحياناً المنادون بها، واختفى الجدل الحاد الذي كان دائراً حول المسلسل في وسائل التواصل كما تختفي كل اهتماماتنا بقضايانا العربية بعد حين، حين نغوص عميقاً في حيواتنا اليومية ومشاغلنا البسيطة الساذجة وننسى ما كنا نصرخ به ونعترض عليه. انتصر الرقيب والرقباء مجدداً وسيطرت العلاقات السياسية على المشهد الفني ليختفي هذا العمل «جبراً للخواطر السياسية» وإخماداً للضجة الإلكترونية التي لا تتعدى كونها أزيزاً فارغاً سرعان ما سيخمد، استمر المسلسل أو اختفى. اختفى المسلسل، لن نعرف البقية الباقية من زاوية طرحه، لن نستمتع بالتحاور حول أخطائه والسخرية من أداء بعض ممثليه والنقاش حول الأحداث الجادة ووجهات النظر الخطرة والجدلية التي يطرحها. سُجّي الحوار جثة هامدة في مثواه الأخير بفعل فاعل، بكل الحياة التي كانت ستكون نقداً وسخرية وغضباً ومديحاً ولربما إصراراً على إنتاج شيء أفضل، شيء أكثر توازناً وواقعية لو كان هذان هما ما يفتقدهما المسلسل. الآن لا يوجد مسلسل، لذا لا يوجد حوار ولا يوجد دافع لعمل شيء أفضل، «فالأسوأ» أياً كان من وجهة نظر أصحابه سيتم القضاء عليه، ثم لا حاجة لمقارعته الحجة، ولا محفز على إبداء وجهة نظر أخرى، وكيف يتم إبداء وجهة نظر أخرى دون وجهات نظر موازية تجعل كلاً منها «أخرى»؟ اختفى المسلسل ومعه كل ما كنا سنقول، معه كل الاعتراضات والسخريات والجدالات والحوارات حول الذي كان والذي يجب أن يكون، وأطبق الصمت الذي يعشقه عالمنا بحكوماته وشارعه، الصمت تجاه «المواضيع الحساسة» و»الشؤون الداخلية» و»أسرار البيوت» و»القضايا المحرمة» إلى آخر القائمة المرصوصة بكل قضية حقيقية تستحق النقاش والنقد والتدقيق.
لربما أفضل ما قدم المسلسل هي جرأته «المحدودة» ولكن غير المسبوقة في الطرح، هي تلك اللمحة الطبيعية في الحوار، كمثل تلك الجُمل الناقدة سياسياً التي يقولها الناس في حيزاتهم المغلقة، والتي نفتقدها كثيراً في أعمالنا الفنية غريبة الشكل والإخراج، حيث تتبادل فيها الشخصيات حوارات غريبة كأن من يكتب آخر جملها ينسى ما كتب في أولها، كما ويتعامل بعضهم مع بعض بشكل مستغرب، فالمتزوجون والأقرباء مثلاً في تلك الأعمال الفنية لا يتبادلون أي إشارات عاطفية حقيقية، حيث يؤدي الممثلون عن بعد وبتحفظ يضفي طابعاً كوميدياً غرائبياً على معظم الأعمال المعروضة. لقد أعطت لمحة الجرأة المقدمة في المسلسل، بكل أخطائه ومثالبه والتي بعضها كان يسير التفادي، طعماً آخر وقيمة أخرى. ولو لم يضغط المسلسل بجرأته تلك على بعض الجراح الموجعة، لما أحدث كل هذه الضجة التي كان يفترض أن نركب موجتها لنصل بها إلى الشاطئ، حيث نجلس في دائرة كبيرة مستديرة نتناقش ونتعارك ونفهم تاريخنا لنفهم حاضرنا وأنفسنا.
نعاني نحن الكويتيين كما يعاني بقية العالم العربي من أعراض الحساسية المرتفعة والولاء الأعمى المبالغ به والمتجلي في المحاولات الساذجة لإظهار مجتمعاتنا مثالية كاملة، لا طائفية ولا خلافات داخلية ولا غضبات مستترة تحوم فيها، كما ونعاني من عارض الرفض التام لأي نقد خارجي لداخلنا السياسي، والذي ليس هو داخلي مطلقاً في عالم اليوم المتشابك الذي يُعنى فيه كل البشر بكل البشر. مؤخراً، بتنا -نحن الكويتيين- نفوت الكثير من الفرص لأن نبقى مختلفين، وهو الاختلاف الذي طالما ميزنا عن بقية منطقة الخليج بل والعالم العربي بأكمله. نحن مختلفون بحواراتنا وبديموقراطيتنا وبجرأتنا غير المعتادة في هذا العالم العربي الذي كثيراً ما يضيق بأهله، فمتى بدأنا نضيق باختلافنا وتفردنا، وعلام أصبح صوتنا العالي، سياسياً واجتماعياً وفنياً، مصدر إزعاج لنا ومحط أنظار رقابتنا ليس فقط الرسمية ولكن كذلك الذاتية، الآخذتين في شد الخناق حول رقابنا؟ لقد غضب الكويتيون بسبب تعامل القناة المعنية مع قضية كويتية شائكة، تاركة بقية قضايا بقية الخليج، الأكثر خطورة وأهمية أحياناً، مستترة دفينة، شاعرين وكأنهم «الطوفة الهبيطة» التي يجلس الكل فوق سورها، غير مدركين أننا محظوظون في الواقع بما نملك من حرية وديمقراطية ما يمكننا من مناقشة سياساتنا في العلن لننام بأمان ليلاً في بيوتنا، وما يجعل قضايانا محط اهتمام عالمي، قضايا قابلة للحوار من العالم أجمع بدافع من انفتاحنا وسعة صدر الديموقراطية (النسبية) التي تظلل بلدنا. بريطانيا «العظمى» تنقد تاريخها وملكتها الراحلة، وبالتأكيد ملكها الحالي في المقبل من الأعمال، في أعمال درامية لا تنتهي، كما ويتسع صدرها، بإرادتها أو دونها، لأعمال درامية «خارجية» آخرها مسلسل «التاج» الذي كان إنتاجاً أمريكياً والذي كان محور حوار عالمي صاخب رغم الاستياء الملكي البريطاني الذي تردد حوله، ومثلها في ذلك كل الديموقراطيات العريقة في العالم، التي لم يصمها أي عاقل أو واع بأنها «حائط مائل» ولم تحاول أي جهة داخلية، رسمية كانت أم سياسية أم شعبية، إخراس صوتها أو إيقاف حتى أكثر أعمالها حساسية ونقداً وسخرية. فخر لنا أننا قادرون على مناقشة ظروفنا وحكاياتنا علناً وأن العالم قادر على الدخول في هذا الحوار البشري التاريخي الطويل الذي هو فعلياً ملك لكل البشر. هذه الأريحية والثقة، وليس الخوف والتوجس وتجنب التعامل مع الأحداث الخطرة من الداخل والخارج، هي ما يجب أن تكون مدعاة فخر لنا ككويتيين، كشعب صغير بقلب كبير وصوت عال، لا يتورع عن توبيخ ونقد نفسه، فماذا حدث لنا، وكيف قبلنا بل وشجعنا تكميم الأفواه؟ متى أصبحنا حساسين خوافين هكذا؟