ماذا نحن فاعلون؟
دار الحديث مطولاً عن الحريات وأهمية إفساح حيز للرأي الرخيص قبل الثمين لحماية المبدأ في عمقه، إلا أن الأزمة «الفرنسية الإسلامية» ـ إن صح التعبير ـ تشير إلى مشكلة أعمق من مجرد موضوع التعصب لحرية رأي في مقابل تشنج عقائدي، الموضوع لربما يذهب إلى خطة مدبرة، والمسلمون يساهمون في ضبطها ضد أنفسهم دون استيعاب حقيقة تكيفها ضدهم.
ولقد كتب د. فهمي جدعان مقالاً في العربي الجديد بعنوان «في أغلوطة ماكرون ومتعلقاتها» يشير فيه إلى أن هناك من يوهم بأن «الديانة الإسلامية في أزمة» بينما الحقيقة هي أن الأزمة ماثلة في «واقع المسلمين» الذي يتحدد، في الغالب الأعم، في وجودهم التاريخي الثقافي، لا في وجودهم «الديني العقائدي» أو اللاهوتي الذي يجسد ماهية الدين وحقيقته. لأن الحقيقة هي أن هذا «الواقع» هو الذي يحيا «أزمة». يشير الكاتب إلى أن هذه الأزمة تتمثل في الوجود الترامبي في أمريكا، والتصاعد اليميني في فرنسا، والراديكالية الهندوسية في الهند، والشيوعية العازلة في الصين، والانتهاكات البوذية للروهينغا، وغيرها. وعلى حين أنه لا يمكن نفي هذه الأوضاع العسيرة التي يحياها المسلمون «كأقلية سياسية» في أماكن متعددة من العالم، والتي تخلق تهميشاً يصنع كل هذا الغضب وردود الأفعال العنيفة بين الجاليات المسلمة، فإنه لا يمكن نفي أن هناك أزمة قراءة دينية لا تريد أن تتحرك، عابرةً الزمن الذي ولدت فيه الديانة، وصولاً للزمن الذي تعاصره الآن، ولا يمكن نفي وجود مقاومة إسلامية شائعة لكل قراءة تجديدية تخفف من حدة الانفصال بين المسلمين وزمنهم الحالي.
فحوى مقال د جدعان يؤكد أنه لا توجد «أزمة في الديانة» نفسها، وإنما يحيا المسلمون اليوم «حياة مأزومة» لا علاقة لها بمجمل العقائد اللاهوتية الركنية، وهو المفهوم الذي ـ في رأيي ـ يعمق دور الضحية كصفة أساسية في تشكيل الهوية الإسلامية. لا يمكن نفي معاناة المسلمين في بعض أنحاء العالم، إلا أن المسلمين ليسوا الفئة الوحيدة المهمشة أو المستهدفة من العالم كله، كما يحاول بعض المفكرين إظهارها، فهناك فئات عديدة مهمشة ومقموعة في العالم كله إلا أن صفة العنف ورفض النقد والإصرار على امتلاك الحق المطلق أصبحت صفات مستحقة لهم بسبب معاناتهم، وأضحت مفروضة على بقية العالم بسبب تطرفه ضدهم. هذا، وبعض مظاهر التطرف الحادة جداً ظهرت في أكثر المناطق الإسلامية وبين أكثر الأسر المسلمة رفاهية وراحة، أسامة بن لادن ـ مثالاً. نعم، قد يكون بن لادن شاهداً على الوضع الإسلامي في العالم، متأثراً بالحوار الفوبيائي العام تجاه الدين مما دفعه في اتجاه راديكاليته، إلا أنه كان يمتلك من راحة الحياة ومن طيب أمنها ما يُمَكِّنه من مقاومة الحلول المتطرفة، لكنه لم يفعل، ولربما ما دفع به لعدم المقاومة هي القراءات الدينية المأزومة التي يحاول د. جدعان تبرئتها كأحد أسباب المشكلة.
نساهم في المشكلة وفي توضيح وتعميق و«تلوين» الصورة الإسلامية الراديكالية للعالم، ليس فقط برفضنا للنقد تقريباً بكل أشكاله وبادعائنا امتلاك الحق المطلق وبإعطاء أنفسنا الحق في اتهام أديان الآخرين و«إثبات» فشلها وتحريفاتها وضعفها ورفضنا أن يعاملنا الآخر بالمثل، لكن كذلك بردود أفعالنا الصاخبة التي تؤكد للعالم ما يتهموننا به. في حوار لي مع الدكتور والمفكر الكويتي شفيق الغبرا، أشار ببساطة ووضوح إلى عمق المشكلة: نحن نسمح للعالم باستفزازنا من خلال ردود أفعالنا. فعوضاً عن أن نرد الاتهام بالحجة، وعوضاً عن أن نكتب المقالات ونؤلف الكتب وننتج المسلسلات والأفلام التي تحكي قصتنا العقائدية الحقيقية وواقعنا الزمني الراهن… نغضب ونثور، ممعنين في تثبيت التهم الفوبيائية على أنفسنا. نستسلم لخطة ممنهجة لتشويه سمعتنا ونميل إلى أفعال تعمق غرقنا في رمال متحركة لمؤامرة قبيحة لا نريد أن نميزها.
هذا وتبدو المحاولة المستمرة لمقارنة النقد الديني للإسلام بالعنصرية ضد السود ـ مثلاً ـ هي محاولة لا تزيد الطين سوى بلة. فالعنصرية لأسباب بيولوجية كاللون أو الجنس أو العرق لا يمكن مقارنتها بالنقد الأيديولوجي مهما بلغ عنف هذا النقد أو تطرفه. قد يصبح نقداً غير حصيف وغير متزن ليربو على الفوبيا الدينية، إلا أنه لا يمكن أن يتحول النقد الأيديولوجي إلى عنصرية إلا إذا تحول إلى فعل. أعني بذلك أنه أن يكتب أحدهم –مثلاً- مهاجماً الحجاب، فهذا حقه في التعبير عن رأيه، أياً كانت درجة رداءة هذا الرأي، لكن أن يهاجم أحدهم سيدة محجبة في الشارع أو أن يُفَعَّل هذا النقد في صورة قانون يمنع الحجاب فتلك هي العنصرية السياسية والاجتماعية التي يجب محاربتها. نحارب التنفيذ العنصري للأيديولوجيا ولا نحارب الفكرة المكتوبة أو المرئية أو المنطوقة، فطالما بقيت في حيز الكلمات فلا يمكن الرد عليها سوى بالكلمات.
حركات البيض العنصرية لا تزال تجد لها مكاناً في الغرب رغم موتها الإكلينيكي، ولا تصبح تحت طائلة القانون إلا إذا دخلت حيز التنفيذ، حين تتم التفرقة على أساس اللون أو حين يُمارس العنف بسببه. وحتى في حال وجود قوانين تجرم العنصرية اللفظية بسبب اللون، فهذا مفهوم منطلقاتها، فهي عنصرية بيولوجية لا يد للإنسان فيها. الديانة المسيحية تجد ذات النقد الذي يجده الفكر الإسلامي وربما أقسى بكثير، ذلك أن الدين فكر يدخل في حيز النقد، في حين أن اللون هو بيولوجيا مفروضة على الإنسان لا يجب أن تتحمل النقد.
المحصلة أن الحديث المستمر عن حياكة مؤامرة ضد المسلمين، رغم تعزيزها لدور الضحية الكريهة، قد لا تخلو من كل صحة، المهم… ما نحن فاعلون تجاهها؟ هل نقاومها بالتي هي أحسن أم نقويها ونعززها بردود أفعالنا الصاخبة العنيفة؟