لنَعْبر جميعاً
في أبسط فهم لنا كعامة الشعب للقانون ومهمته، هو أنه يصاغ ويُفَعَّل ليحمي الناس وليحقق ولو حداً أدنى من العدالة بينهم. والقانون هو القول الفصل، هو نص يختزن الدراسات التاريخية، العلم اجتماعية، البيولوجية، الفنية والثقافية، إلى غيرها من مناحي العلم الإنساني، لتنصهر، بعضها أو كلها، في جملة قانونية تحاول من خلال كل كلمة من كلماتها أن تحافظ على أمن وسلامة الناس جسدياً ونفسياً، وأن تقيم العدالة بلمسة من الرحمة بينهم، ولربما الرحمة هي ما نستشعر حين نتحدث عن تطبيق روح القانون عوضاً عن التعامل معه كجمل جامدة قاطعة.
تتراوح النصوص القانونية بين العنيفة، والركيكة والمعدومة، فيما يخص المختلفين (مع التحفظ على التعبير من حيث تحديد ما هو السائد وما هو المختلف) والعابرين جنسياً في دولنا العربية، لتذهب بعض هذه الدول لإطلاق عقوبات وأحكام على هؤلاء رغم عدم وجود نصوص بذلك في قوانينها لتساند هذه الأحكام، فيما تنحو بعض الدول الأخرى إلى الاعتماد على نصوص قوانين فضفاضة، غالباً ما تتعامل مع الآداب والأخلاق العامة، لاضطهاد هذه الفئة وتعنيفها جسدياً ونفسياً، لتذهب دول أخرى للاعتماد على قوانين صريحة التعامل مع العبور الجنسي تحديداً كجريمة، وذلك معاقبة وعزلاً وكسراً لكرامات من ينتمون لهذه الفئة الإنسانية.
فعلى سبيل المثال، يستمر قانون التشبه بالجنس الآخر في الكويت، ومنذ سنة 2007، في خلق الضحايا الواحدة تلو الأخرى، حتى انتهى الأمر إلى واقعة ألقت من خلالها الشرطة القبض على سيدة بتهمة التشبه، والتي بدورها، بعد أن عانت ما عانته من اضطهاد وهدر للكرامة وفي الغالب تحرش بداخل السجن، قامت برفع قضية أمام المحاكم الكويتية انتهت بإلزام محكمة التمييز لوزارة الداخلية بتعويض المواطنة أربعة آلاف دينار عما حاق بها من ضرر، وليتبع ذلك رفع قضية أمام المحكمة الدستورية للطعن في دستورية هذا القانون المشوه، حيث ننتظر قرار المحكمة حوله في منتصف الشهر الجاري. لربما حققت المواطِنة الكويتية المحكوم لها بالتعويض انتصاراً بسيطاً، ولربما هي، برفعها للقضية، أبرزت هذه المعضلة إلى السطح متحصلة على حكم قاطع بخطأ الداخلية الجسيم في التعامل معها كإنسانة ومواطنة، لكن هل سيعوض أي من ذلك شهوراً، ولربما سنوات، قبل حتى حدث القبض عليها ثم رفع قضيتها، من الخوف والقلق والإقصاء والكراهية والتهديد المستمرين التي عايشتها هي جميعاً منذ صدور هذا القانون؟
القانون المطاطي الذي يعطي قوة هائلة في يد الجهة التنفيذية وأقل القليل في يد المعنيين به ليُمَكِّنهم على أقل تقدير من إثبات موقفهم أو ضمان حقوقهم، هو قانون مفزع، قانون يشجع على العنف، لفظياً كان أم جسدياً، قانون يعلي أفراداً على أفراد، يخلق معادلة القوي والضعيف، ويشجع منحى تسلط طرف واستقوائه على طرف آخر بل وقمعه له. ليس هذا بفعل لقانون ولا نتيجة له، لربما الأصح أن نقول إن هذا ليس قانوناً من أصله، هذا بيان رقم واحد ينقلب على الديمقراطية والعدالة والحقوقية التي يجب أن يثبتها أي قانون عادل أمني منطقي رصين. بكل تأكيد أن يوجد قانون كارثي من فئة هذه القوانين التمييزية جندرياً في أي دولة فتلك مصيبة، لكن أن يغيب كل قانون يحمي أي أقلية من أي نوع، هنا تكون المصيبة أعظم.
إن العبور الجندري هو اليوم حقيقة علمية واضحة، لها دراساتها وإجراءاتها الطبية، التي تعترف بها وزارات الصحة في أغلب الدول العربية، حيث تصدر معظم هذه الوزارات التقارير الطبية لمثل هذه الحالات رغم أنها لا تعالجها إلا فيما ندر. ولدينا حالة من التناقض الغريب حتى بين مؤسسات دولنا؛ من جهة تعترف وزارات الصحة بالحالة، ومن جهة أخرى ترفض وزارات العدل والداخلية وغيرها من الوزارات المختصة التعامل معها، بل وتذهب لمعاقبة أصحابها. أي منطق هو هذا؟
أن تأتي لهذه الحياة وأنت متسق جندرياً وجنسياً، أن تخلق بهوية واضحة ومحددة، فتلك نعمة قدرية يجب علينا أن نفهم أنها غير مقدرة لكل إنسان يمشي على الأرض، وأن من يأتي للحياة بتعريف هوياتي غير رائج أو واضح أو مفهوم للعامة أو من يحتاج إلى تدخل طبي، هؤلاء هم تحديداً من يحتاجون بشكل أكبر للحماية القانونية والرعاية المجتمعية التي تتحقق من خلال التثقيف والفهم من جهة، ومن خلال ترسيخ المفاهيم الحقوقية من جهة أخرى، ذلك أنه حتى إذا رفض العامة تقبل أو استيعاب المفاهيم العلمية والأنثروبولوجية، فلا خيار لهم في فهم المنطق الحقوقي من حيث احترام أمن وسلامة الآخرين وتأمين كراماتهم. أي قانون لا يحقق هذه المعادلة الحقوقية الإنسانية الأساسية، هو قانون مشوه يحتاج لبتر مباشر قبل أن يصيب المجتمع بأكمله بغرغرينا سامة، وأي مجتمع لا قانون لديه يحمي هذه الأقليات الجندرية ويفرض على المجتمع احترام حقوقها وأمنها هو مجتمع مضعضع يحتاج لإعادة تقييم وعلاج مدني وقانوني وإنساني سريعين. نحتاج أن «نعبر» جميعاً، بقوانيننا، بثقافتنا، بفهمنا المجتمعي، إلى منطقة أكثر أمناً للجميع، أكثر عدالة وإنسانية.
في الكويت، نتوجه بقلوبنا وعقولنا ووعينا ومواطنتنا وكراماتنا كبشر قِبلة المحكمة الدستورية بانتظار كلمة الفصل الحقوقية الإنسانية العادلة.