لنناضل كنساء، لا كرجال
نأتي متأخرين نحن للمشهد، نتمسك بذيله متصورين أننا وصلنا إلى أعلى رأسه، نتباهى بالمعرفة الجديدة غير مستوعبين أن تطورها ينطلق بسرعة الضوء، وأن لحظة وصولنا للقيمة المعرفية هي مؤشر كذلك لتعدي هذه القيمة لزمننا وأفكارنا بمئات السنوات، بمعنى أن لحظة وصولنا للمعلومة هي ذاتها لحظة ابتعاد هذه المعلومة عنا بتطوراتها المختلفة مسافة شاسعة. هذا الوضع المعرفي يحتاج لكثير من التواضع وكثير من الجهد لفهم الواقع ومجاراته.
دارت قبل فترة حوارات عدة حول النسوية، معناها ومفاهيمها، حيث تداخلت أنا مع الشابات المتحمسات على إحدى وسائل التواصل مخبرة إياهن أن زمننا تعدى كلمة نسوية بمفهومها الأصلي المبدئي، وأنها اليوم أصبحت مصطلحاً قديماً، نعم مستمر وله ديمومة من حيث إشارته لنوعية النضال وأسس الأفكار، لكنه أصبح ينتمي لعصر الحداثة الذي تعدينا، فانتقلنا بالمفهوم هذا من الموجة الأولى والثانية والثالثة إلى ما بعد الرابعة حالياً، التي هي مرحلة مختلفة بشكل كبير في فحواها ومفاهيمها. لا تختلف النسوية في ذلك عن مفاهيم الليبرالية والعلمانية مثلاً التي أصبحت اليوم جزءاً لا يتجزأ من وعي وضمير المجتمع الغربي، إلا أنها مفاهيم لا يتم تداولها على أنها حية بحثياً، ذلك أنه تم تعديها معرفياً بمراحل عدة لكي تبقى هي راسخة ومؤسسة للفكر، غير أن هذا الفكر لا يقف «مخلصاً» عندها؛ ففي عالم المعرفة، الإخلاص لا يكون بالثبات بل بالتطوير والبحث والتغيير.
بالطبع، ثارت ثائرة بعض هذه الشابات بسبب إضافتي تلك، لينحون إلى أسلوب البطولة الحديثة الذي يقول بالهجوم والشتم والتعنيف المتاحة جميعاً بسهولة من خلف الشاشة الزجاجية التي يكتبن عليها، بلا توقف للحظة، لفهم المعنى الأعمق للمعنى، متحمسات جداً لمفهوم النسوية وللنضال النسوي بلغة تشبه تلك التي للموجة الثانية التي تعداها الزمن. تذكرت هذا الموقف وأنا أقرأ مجدداً بعض الحوارات التويترية عن الموضوع والمتداولة حالياً، مأخوذة تماماً بجمال الحماسة والقوة التي تتناقش بها هؤلاء الشابات، ونافرة في الوقت ذاته من العنف الحواري المتبادل الذي يتصادم في الواقع مع الفكر النسوي لما بعد الموجة الثانية، حين وجدت النسويات المخضرمات الناشطات والباحثات أن النضال يحتاج، إضافة إلى القوة والإصرار وحتى شيء من العنف اللفظي (بمقدار)، إلى كثير من التكاتف والتعاضد بجانب البحث العلمي والتفكير.
اليوم أصبحت الحركة النسوية أكثر اتساعاً، فهي حركة جندرية تستوعب تماماً أن أساس القمع الذي عانته النساء على مدى تاريخ البشرية يكمن في التمييز الجنسي وما تبعه من تصنيفات وتمييزات جندرية. هذا الاستيعاب حول النضال النسوي من ذاك الخاص بالمرأة كجنس وجندر إلى ذاك الخاص بالإنسان، أياً كان تصنيفه، إذا ما كان مضطهداً بسبب جنسه أو تعريفه الجندري. إلى جانب ذلك، تطورت الحركة النسوية من تلك المطالبة بالمساواة إلى تلك المطالبة بالحقوق التي مقياسها الإنسانية لا الذكورية، بمعنى أن النسوية اليوم لا تطالب بالمساواة بالرجل، والتي هي مطالبة تجعل من الذكر المقياس المحدِّد، إنما هي تطالب بحقوق عامة حتى وإن لم تتوفر لبعض الذكور في بعض المجتمعات. تعدت النسوية كذلك المطالبة بتحرر أسلوب الحياة وصولاً إلى تحرير الإرادة والاختيار، فلم يعد المظهر الملتزم أو الأنثوي مثلاً، كما كان إبان فترات معينة من النضال، مقياساً للكبت والمعاناة أو مصدر حكم على الواقع الحياتي للمرأة، إنما أصبح حر إرادتها (وهنا أقول «حر» تجاوزاً، ذلك أن الحرية التامة هي فكرة أسطورية في الواقع) هو الهدف المنشود، لتفعل من خلال هذه الإرادة ما تشاء، تتغطى أو تكشف، تخلق علاقات أو تنعزل، تتدين أو تبتعد، إلى آخرها من الاختيارات الحياتية الحرة.
لقد أصبحت كلمة النسوية عند الغرب الذي بدأ حراكها العملي كلمة قديمة، ثابتة وراسخة نعم، إلا أن الأبحاث والأفكار تعدت بداياتها إلى مناطق عميقة وخطرة وعسرة على الوعي الشرقي. فعلى سبيل المثال، تُسائل النسوية المعاصرة التقسيم الجنسي كما الجندري، متحدية فكرة التقسيم البشري إلى ذكر وأنثى، مدعية أن البشر قد ينقسمون إلى تصنيفات أخرى عدة، وصولاً إلى كون كل إنسان نوعاً بحد ذاته، وذلك نظراً للاختلافات الكبيرة أحياناً للواقع البيولوجي لأجسادنا البشرية. أعلم أن هذا مبحث استشكالي ومبالغ به علمياً وفلسفياً، إلا أنني أقصد هنا الإشارة إلى المراحل التي قطعها الفكر النسوي الجندري حالياً، الذي تعدى بمراحل الفكر النسوي الذي بدأ القصة برمتها. تحتاج الشابات حاملات لواء الحراك اليوم إلى كثير من الهدوء والتبصر قبل القول والفعل، فما عطل الحراكات الإنسانية عموماً أحد مثل أصحابها باندفاعاتهم وحماستهم، التي رغم روعتها وفائدتها العظيمة، قد تصبح حجر عثرة كبيراً أمام التسويق للفكرة وتحقيقها مجتمعياً.
وأخيراً، أشير إلى أن أحد أهم المباحث النسوية انصب في التعامل مع اللغة، مشيراً إلى أن لغة الحوار النسوية لا تحتاج أن تكون عنيفة وقاسية وهجومية، ففي ذلك تشبه باللغة والأسلوب الذكوريين. لنحاول من خلال نضالنا أن نخلق مساحة مختلفة وجواً مختلفاً، وألا نقع في فخ ما ننتقد، وألا نتحول للعنف اللغوي الذكوري الأبوي فيما نحن نناضل نسوياً. ما ميز الحراك النسوي أنه كان دائماً مختلفاً، مفاجئاً، فلنبق مختلفين مفاجئين، فلا نناضل كرجال من أجل قضية لم نحافظ عليها ونتعامل معها كنساء.