عارضة الأزياء التونسية ـ الإيطالية عفاف جنيفان خلال جنازة مصمم الأزياء التونسي عزالدين علية
لنستمتع بالحزن!
إلى كل قرائي وأصدقائي الحزينين،
أتأمل منذ فترة معنى الحزن، هذا الشعور المعتم العميق القادر على فصلك عن وجودك المادي حتى لتصبح مجرد شيئا بعيدا عن ذاتك، تتحول إلى مجرد فجوة روح أو نبضة قلب مؤلمة خلف الضلوع تفصلك عن فيزيائية الحياة حتى لتغدو قادرا وبحياد غريب على تأمل عتمتك باندهاش وانبهار.
هذا الحزن، وخزة في جنبك تقرص ثناياك كلما نسيت، أو في لحظة مسروقة فرحت، نبضة في قلبك لا تدري أقلبك نبضها أم توقف عنها، تعرف بتحققها بسبب رجة تدفع بقفصك الصدري حتى لترى انحناءاته مرسومة على جلدك، هذا الحزن ماذا يقول عن معنى الحياة؟ كيف يغيرك ببدنك وروحك؟
يبدأ الحزن نابضا مؤلما حد الصراخ، ليصعد بعدها حافلة الزمن، فتراه يتنقل من غضب إلى نفور إلى لا مبالاة، ليصل تاليا عند المحطة الأخيرة، محطة على طرف الحياة، لا عمود نور واحد على رصيفها، لا حس بشر يؤنس سكونها، لا نسمة هواء تشير إلى زمن يمر بها. محطة معتمة قاتمة جامدة باردة، هي محطة اليأس الواقعة خارج الزمان والمكان، حيث لا تعب بعدها ولا انتظار ولا تأمل ولا ترجي، هي النهاية بكل ما تحمله الكلمة من خفوت وانعدام.
في أعلى درجات الحزن كثير من الراحة، تتحول عندها إلى إنسان متأمل محايد، كأن حياتك لا تعنيك، جسدك لا يعنيك، وجودك بأكمله لا يعنيك. تقف خارج كل هذه المساحات متأملا، مندهشا، وأحيانا حتى تتسلى بكل ما ترى، حيث كل هذا الذي تراه لم يعد يعني شيئا أو يغير شعورا أو ينير شمعة في داخلك القاتم.
حتى أكثر الأفكار إسعادا وبعثا للأمل، تصبح عرضة للضياع التام في عتمة داخلك الحالك هذا؛ داخل هادئ داكن منطفئ شديد الثقل واللزوجة، كأنك محشو شوكولاتة داكنة ذائبة لا مفر خارج طياتها المتتالية، لا أمل في شمعة تشتعل في خضم تموجاتها الثقيلة السوداء.
الحزن العميق هو التجربة الحية للموت. هو أن تتذوق شطفة من تلك اللامبالاة العدمية، أن تجرب معنى الحياد التام، أن تعيش (أو تموت) لحظة الخروج خارج التجربة المنيرة بالمشاعر دخولا إلى اللاشيء المنطفئ، حيث لا تجارب ولا مشاعر، لا فرح ولا ترح، لا سعادة ولا ألم، فقط حزن هادئ دافئ يجوب أنحاء جسدك، يتغلغل في ثناياك؛ شوكولاتة داكنة ذائبة تتسرب وتسد كل منافذ جسدك، كل مداخل الحياة والنور.
الحزن لذيذ كما الحلوى السكرية السامة؛ الحزن مسكّر كما الكحوليات الثقيلة الحارقة؛ الحزن ثقيل كما أمتار قماش المخمل الطازج؛ الحزن لزج كما تلك التي نعشقها، الشوكولاتة الداكنة الرزينة.
حين تصل إلى قاعه، هذا الحزن التام الكامل العظيم، يصعب عليك ضرب قدميك صعودا إلى السطح بكل ضوضائه وأنواره وتعقيداته، وما ستجد على هذا السطح سيكون جدير بالمحاولة؟ “ليس هناك ما يبهج” على الأغلب، حيث الجملة هي عنوان كتاب لمن كان ذات يوم عظيما في نفسي، الكاتب السعودي عبدو خال، ليخبو هو الآخر وينطفئ وهجه كما تنطفئ كل آمال وسعادات هذه الحياة ـ لربما قصته محور مقال قادم.
“ليس هناك ما يبهج” أو يبشر على السطح، فالصعود يتلوه هبوط والهبوط يحتاج إلى إرادة خارقة للصعود، دائرة عذاب لا تنتهي إلا، كما يعتقد البوذيون من خلال عقيدتهم الفلسفية الرائعة، حين يلبي الإنسان هدف وجوده في هذه الحياة ويقضي دوره الذي وُجد في الكون من أجله ليتوحد مع الروح العليا ويتوقف عن دورة الولادة والموت وإعادة الاستنساخ المعذٍبة تلك. لماذا الصعود إذا كان الهبوط مقدر؟
مغر جدا البقاء في ثنايا الشوكولاتة الدافئة المعتمة المريحة، إلا أن الخروج من طياتها محتّم ولو بفعل الزمن، فالحزن يشاء والناس ومتطلبات الحياة وحاجاتك الأساسية تفعل بك ما تشاء، والزمن ينسيك كيفما يشاء.
لا بد أن نتذكر، نجبر أنفسنا على تذكر، أن في العتمة منافذ وأن للعمق نهاية وأن للشوكولاتة زمن تذوب عنده، بعدها تبدأ الحياة من جديد، تنتهي راحة الحزن وتبدأ متاعب العودة إلى الحياة، حيث آلام الأنوار تضرب العينين ونبضات الألم تخترق القلوب، لتبدأ الدورة من جديد.
إلى حينها لنستمتع بالحزن بعض الشيء، لنركن في جنباته الدافئة ونترهبن في صومعته الداكنة ونسكن لأنفسنا ولوحدتنا ولو إلى حين، لربما نكتشف شيئا يبرر وجودنا وذهابنا وعودتنا وحياتنا وموتنا وانتهائنا إلى اللاشيء.