لنا كل الشرف
دار حوار قبل يومين على تويتر حول موضوع النقاب أثارته تغريدة لكاتب كويتي يستذكر فيها “امتعاضه” بسبب محاضرة كان يلقيها قبل سنوات وكان معظم حضورها من المنقبات مما دفعه لاختصار محاضرته والمغادرة “لغياب التواصل الإنساني مع كتل سوداء لا يربطني بها شيئ” على حد قوله. كَتَبت إحدى أساتذة الجامعة معلقة على تجربتها الإيجابية في تدريس المنقبات اللواتي كن “متفوقات ومهذبات” وكتبت أنا أوافقها تماماً في رأيها وأشترك معها في تبيان تجربتي الإيجابية. فمن بين أنبغ وألمع طالباتي كن منقبات لم يقف النقاب بينهن وبين تحصيلهن العلمي المميز.
كان الحوار غريباً بل وكليشيهياً، هل نحن فعلاً نتحدث عن ملبس المرأة وندافع عن عقلها بالقول بأن ملبسها لا يعرِّفه وليس دلالة عليه؟ هل يفترض أصلاً أن ندافع بهذه الصورة وكأن النقاب ارتبط بالرجعية ما يستدعي فصلنا الفكري بين طالباتنا وبين ملبسهن؟ بدا الحوار كله غريب غائر في القدم، حوار يفترض أن تعداه الزمن والفكر والفلسفة المعاصرين. إلا أننا نجد أنفسنا مضطرين دوماً للعودة بالزمن للخلف حين الحديث عن قضايا المرأة، وكأن كل الدنيا تتقدم للأمام فيما عدا الجزء الذي يخصها، دوماً يبقى حبيس بدايته، منشئه وتقاليده. حوار قميئ كان ذاك الذي جُررنا جميعاً إليه، لا ذرة حصافة فيه، لا في الهجوم، حيث تغيب الحصافة إرادياً، ولا في الدفاع، حيث تغيب الحصافة قسرياً بسبب فتح طريق لحوار لا يجب أن يكون أصلاً.
ثم تشعب الحوار حين سحب أحد المتحاورين مقالاً لي نشر في 2011 على أثر قرار فرنسا منع الحجاب والنقاب أعرب فيه عن تفهمي واستحساني لفكرة قانونية منع النقاب بسبب العامل الأمني ورفضي التام لفكرة منع الحجاب التي لا مبرر لها سوى القمع الديني. أشارت أكثر من مغردة مؤيدة لمنع النقاب إلى ضرورة إقرار مثل ذلك القانون الذي يمكن أن ينقذهن كمنقبات من إجبارهن من قبل المحيط والمجتمع والأهل على لبسه، في حين جادلت أخريات بأن إقرار قانون يمنع النقاب يتعدى على الحرية الشخصية التي يجب أن يكون موقعها سابقاً للأمن. مما قالته إحدى الرافضات لقانون منع النقاب أن مثل هذا المنع سيحد من حرية المرأة المحدودة أصلاً حين يتسبب في منع الأهل لخروجها تماماً من البيت بسبب غياب نقابها، مما سيفقدها فرص تعليم وعمل وحتى الترويح البسيط عن النفس. جاء الرد من أخرى تذكر بأن التعليم الذي كان مرفوض تماماً من قبل الأهل قد تم فرضه قانونياً، وأنه لم يمر زمن طويل حتى أصبح تعليم الفتيات أمر طبيعي بعد أن أتى قانون يدعمه، لذا فإن تحرير المرأة من النقاب القسري لابد أن يأتي بقانون. ردت أخرى، وماذا عن المرأة الراغبة بمحض إرادتها في ارتداء النقاب؟ فعدنا بالحوار للموضوع الأمني الذي كان منطلقاً مبدئياً للنقاش.
فعلاً، مهما حزمت أمرك في موضوع وتصورت فهمهك الكامل التام له، لابد وأن هناك زوايا خفية له لا يمكنك تمييزها، ولابد أن يكون لأصحاب القضية بحد ذاتها منظور يعلو منظورك ولربما يجبه. ولقد نشرت في 2019 مقال آخر حول الموضوع أقول فيه
إذا ما كانت الحجة الأهم دفعا لمنع النقاب هي المحافظة على الأمن، فإن التجربة الإنسانية تقول إن قسر الناس على منهجية حياة لا توافق عاداتهم أو تقاليدهم أو دينهم هو في الواقع ما سيتهدد الأمن ويخل بقواعده. نعم، لملبس النقاب مصاعبه وعوائقه، إلا أنه إذا كان في مقدرة الدولة تحمل التكلفة المالية والبشرية لضمان حرية الراغبات في ارتداء هذا الملبس، فيجب عليها أن تدفع هذه التكلفة وعن طيب خاطر، فهذه التكلفة لن تغط الجانب الحقوقي فحسب، بل ستغطي أيضا الجانب الأمني والجانب الإنساني، ستفسح طريقا إضافيا في المجتمع، وسترسل رسالة هامة للعالم أجمع حول أهمية الحرية وأولويتها في هذا المجتمع. (من مقال لي بعنوان أين حقي).
ورغم أن الحوار الدائر بمجمله يبدو تدخلاً في خصوصية الآخر، معادياً للفكرة المعاصرة الراسخة لحرية إختيار الملبس والمظهر، ووقحاً من حيث الحديث على لسان صاحباته، فإنه يبدو حوار لا مفر منه، تفرضه ظروف الدنيا علينا كما تفرض تدخلاتها في كل شؤوننا النسائية والأنوثية. الملبس حرية شخصية لا جدال في ذلك، لا يجب أن يقنن له أو يتم التدخل في اختياره خصوصاً إذا كان لهذا التدخل قالب مجتمعي أو ديني أو تقاليدي. إلا أن للمظهر كذلك تأثير أمني لا يمكن نفيه، إخفاء الوجه الذي يمثل هوية يشكل معضلة في مساحات مكانية واجتماعية كثيرة: في المطار، عند قيادة السيارة، في قاعة الامتحان، وقد يجادل البعض أن إخفاء الهوية في أي مكان عام هو محط قلق ذلك أنك لا تعرف أي شيئ عن هوية الشخص الذي تتعامل معه وبالتالي لن تتمكن من استحضاره أو استذكاره إذا ما دعت الحاجة لذلك.
ينطبق ذلك على مظاهر عدة غير النقاب، وإن لم تكن بكل تأكيد بحساسية وعمق مضمونه. فالشخص لا يستطيع إخفاء ملامحه بقبعة أو نظارة في المطار مثلاً رغم أن ارتدائهما يدخل كذلك في حيز الحرية الشخصية. في أحد الرحلات، أُجبرت إبنتي على إزالة عدسة عينيها، رغم أنها عدسة نظر غير ملونة، ذلك أن كاميرا الكشف لم تتعرف عليها، وقد جادلت ابنتي أن ذلك تعدياً على حريتها بل وسيتركها غير قادرة على الرؤية بوضوح طوال فترة الرحلة، إلا أن الواعز الأمني غلبها. إحدى المتناقشات على تويتر ذكرت أنه إذا ما اعتمدنا هذه الفكرة فقد ينطبق ذلك على مساحيق التجميل، ورددت أوافقها، فحد علمي لا يسمح بالمساحيق التي تخفي ملامح الوجه مثلاً في صورة جواز السفر أو حين الدخول للأماكن الحساسة التي تتطلب معرفة تامة بالهوية.
ورغم كل هذه الحجج الأمنية، فإن فكرة التعدي على حرية الآخر في ملبسه هي فكرة رديئة مهما تبدت الحاجة إليها. لربما هناك مجتمعات أكثر حاجة لهذا الإجراء الأمني، ولربما هناك مجتمعات أكثر جهوزية لهذا التطبيق، لكن في مجتمعاتنا الخليجية المحافظة قليلة العدد، يبدو أنه لا توجد هناك جهوزية تقنين مثل هذا القانون مجتمعياً وفكرياً الآن، كما وأنه لا توجد حاجة ملحة لتقنينه رغم ما قد يشكله النقاب من عائق طفيف في بعض الأحيان.
فتوفير سيدات للكشف عن الهوية في المطار أو على أبواب قاعات الامتحان أو في مراكز الشرطة أو على أبواب المنشآت الحساسة لا يبدو عمل شاق متعذر، خصوصاً في مجتمعات صغيرة مثل مجتمعاتنا، وخصوصاً في حيزات اجتماعية كحيزاتنا والمعتادة على رؤية النقاب وغير حساسة تجاهه أو متخوفة منه أو متعنصره ضده (كثيراً)، وخصوصاً حين تأخذ حرية الملبس هذه الأولوية الحقوقية والإنسانية كمبدأ. لا يمكن أن نبدأ بالتفكير في التقنين إلا في مساحة إجتماعية لديها قبول أكثرية ولديها حاجة ملحة، بغير ذلك، حرية الملبس تأخذ مكانها كأولوية فوق كل احتياج آخر أو حجة أخرى.
هذا الحوار المتشعب الطويل لم يكن هو القضية، القضية كانت أساساً تدور حول امتهان المعنيات بالنقاب والنظر بدونية لمن تختاره ملبساً. أن يكون لك موقفاً متضاداً من النقاب أو متوافقاً مع تقنينه منعاً، فهذا لا يستدعي بأي حال من الأحوال السخرية من صاحباته أو التمييز ضدهن أو امتهانهن بأي تعبير أو فعل. فلو كان النقاب اختياراً لصاحبته،
فهذا حق لا يستدعي سوى الاحترام لها، ولو كان فرضاً عليها من قِبل أهلها ومجتمعها، فهذا مدعاة للمزيد من الاحترام والتفهم للحالة التي تعيشها تلك المرأة. في كلا الحالتين، في الاختيار أو القسر، لا مكان للاتهام أو الامتهان. الحكم على الانسان بشكله الخارجي هو أقوى صور الرجعية وأشدهاً كليشيهياً. يفترض أن تعدى بنا الزمن موضوع الحكم، على الأقل المعلن، على الآخر من شكله وملبسه. كبشر يفترض أننا بتنا اليوم نفهم ونتصرف بأفضل من ذلك.
فـ”الكتل السوداء” التي كانت مدعاة هروب صاحبنا من محاضرته، هي كتل دفاع ونقاط قوة في تاريخنا النسوي الطويل، وهن يقمن باختيارات جريئة، لو كان النقاب اختياراً، لا يقوى عليها الكثير من الرجال تلبية للنداء الذي يعتقدنه للدين والعقيدة، وهن يقمن بتضحيات جبارة، لو كان النقاب فرضاَ، لا يعرفها معظم الرجال الذين يحيون عالماً يملكونه ويشكلون قرارات حيواتهم بكامل الحرية فيه.
تلك “الكتل” هي الدرع والحماية، تتلقى الضربات وتمهد الطريق للقادم من النساء. كنت مع منع النقاب أو كنت ضد المنع، لا يمكنك سوى أن تحترم اختيارات النساء أو ظروفهن القسرية، وأن ترفع يديك حامداً صمودهن في دنيا لا تعرف سوى الفرض والقسوة وإطلاق الأحكام عليهن. في دنيا ذكورية تجحدنا، كلنا كتل سوداء قوية وصلبة ولامعة مهما اختلف مظهرنا. . . ولنا الشرف في ذلك.