لم يندم أحد
من المتعارف عليه قديماً في الحضارتين الإغريقية واليونانية قسوة هاتين الحضارتين على أبطالهما، ففي حين أنهما تمجدانهم لما يأتون من أفعال تخدم أممهم، فإنهما ما كانتا تترددان في تحطيمهم وخلعهم التام من قواعدهم الرخامية في حال ارتكبوا أقل خطأ. كانت تلك حضارات قاسية، لا مجال عندها لتعبُد الأبطال ومجاراة أخطائهم، وكانت قسوتهم تتصاعد إلى حد الإطاحة المستمرة وأحياناً الرعناء بأبطالهم.
نأتي نحن على الطرف الآخر من المسطرة، وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين، لا نزال ننتظر البطل المخلص، لا نزال ننتظر هذا الذي يهبط علينا فينقذنا، لنعلو نحن به إلى مصاف القديسين، ولقد كتبت أنا على “تويتر” أدعو للحرية لكل معتقلي الرأي في الكويت منتقدة في الوقت ذاته منحى مسلم البراك ورموز المعارضة ضمنياً، والذي في رأيي قد ساهم في إيصالنا إلى ما نحن عليه اليوم من حالة تمزق سياسي وفساد اجتماعي. ثارت ثائرة “تويتر” ووصلت التعليقات والشتائم حد الشخصنة الجارحة وتأليب كل آرائي القديم منها والجديد، وهذا بحد ذاته ليس المشكلة، هو منحى متوقع، لربما أقول مستحقا، لما في قلوب الناس من آلام، ولما يعانونه من فساد يومي، ولما لانكسار المعارضة من أثر حارق مهين في نفوسنا جميعاً، وهذا جانب لابد من الاعتراف به، فهو مما اقترفته أيادي رموز المعارضة وندفع ثمنه جميعاً، نحن كلنا المنتمين إليها، تتجلى المشكلة الحقيقية في رأيي في نقطتين: أولاهما النقمة الشديدة على الحكومة والنظام اللذين يملآن القلب بضغينة حارقة فيدفعان إلى مناصرة كل رمز معارض بغض النظر عن أخطائه وخطاياه، وثانيتهما التقديس والتمجيد الشديدين للأشخاص واللذين يمسحان كل ماضيهما ويعلوان بهما إلى مصاف القديسين، حتى تصبح التبريرات المعلبة جاهزة لكل ما يمكن أن تقترفه أيادي هؤلاء الأشخاص. هذا المنحى تحديداً تدميري شديد الخطورة على الأجيال الجديدة، هذه التي نتوقع منها أن تكون شديدة في حسابها مع قياداتها، والتي نعتقدها تخطت المبادئ القديمة للانتماء المطلق، لبلع كل أخطاء “أبطالها”، للرؤية الأحادية المحابية التقديسية، للإصرار على صنع أنبياء من قياداتهم، أنبياء لا يخطئون وإن أخطؤوا لا يحاسبون، وهذا أخطر مبدأ يمكن أن تبنى عليه أفكار جيل جديد.
مسلم البراك سجين رأي، لا جدال في نفسي على ذلك، وإن تضارب رأيه مع القانون، فالأولى أن يتغير القانون ليفسح المجال للرأي لا أن يقمع الرأي ليرضخ لقانون قديم، إلا أن ذلك لا يقشع الغمامة ويجب ألا ينسينا أن ما وصلنا إليه اليوم من تدهور شديد كان بسبب تصويتات ولاحقاً تصرفات رموز المعارضة تحديداً قبل غيرهم. لا ننسى التصويتات ضد حقوق المرأة السياسية، ومع قانون الإعدام للمسيء، وكل التصويتات والمواقف السابقة التي لم تأت في يوم بجانب الحريات أو الحقوق، فهذه شعارات ما بدأت تظهر وتقال إلا إبان الحراك الفاعل للمعارضة لإضفاء وجه حضاري على رموزها الذين نعرفهم ومواقفهم من الحريات جيداً. لا ننسى المواقف الماضية المحابية للاستجوابات، لا ننسى اللغة التي أسس لها رموز المعارضة، انحدار في أسلوب الكلام، صراخ وزعيق وتهييج للشباب، لا ننسى الألفاظ المستخدمة والتعابير النابية والتي دخلت في عمق الضمير الشبابي اليوم حتى أصبح تداولها مقبولا ودليل شجاعة، و”تويتر” أفضل مثال. لا ننسى التأسيس للمحاباة الأسرية والقبلية والطائفية التي كانت معلقة فوق رؤوس الرموز، لا يمكن أن ينكرها أحد، حتى ملأت وسائطهم البلد، وامتلأت مقاعد البطالة المقنعة بأقاربهم وناخبيهم يقبضون رواتب لوظائف لا حاجة للدولة بها وفي أحايين كثيرة لا يذهبون لمقارها أصلاً، لا ننسى المواقف الطائفية البغيضة لبعض الرموز، والذين لا يزالون يبثون سموم فرقتهم بين الطائفيتن إلى اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لا ننسى الداو، لا ننسى الدفع بالزيادات المطردة الهوجاء للرواتب والمزايا ولإسقاط القروض أو فوائدها حتى أوصلتنا اليوم إلى مفترق طرق، ووضعتنا في عنق زجاجة لا نعرف كيف نخرج منه، وها هي أزمة إضراب عمال النفط (مع التأكيد على أن الإضراب حقهم الخالص) تصوبنا في العمق، أزمة خلقتها الرعونة السابقة والتجاوب الأهوج الحكومي معها. لا ننسى التحالفات السابقة مع الحكومة حين كان الرموز أفضل الأصدقاء، ولا ننسى كيف انقلبت الأحوال وتبدلت الحظوظ وما نتج عن كل ذلك. والآن يجب ألا ننسى أن هذا النهج مستمر، بمخلفاته القديمة وبمستجداته الحديثه، لم يتغير شيء، لم يندم أحد.
لا ننسى خلافات واختلافات رموز المعارضة بعد بدء الحراك، والتي حطمتها وفرقت شبابها، منذ ما قبل ندوة “قاطع” في 2012 وإلى اليوم، ومن خلال مايكروفونات الندوة كنت، وغيري، ننادي بطريق ثالث مختلف مستقل للشباب، لا يتبعون فيه رمزا ولا يدينون فيه بولاء حد العبادة لقائد. ذكرت يوم الندوة أن أسوأ مجلسين مرا على الكويت كانا مجلسي 2009 و2012، فهما أدخلانا في أزمة بقينا ندور فيها فترة طويلة، ذكرت ضرورة العمل لتحرر الشباب ليس فقط من التسلط الحكومي وفساد مناحيه، ولكن التسلط المعارضي كذلك وفساد فكر رموزه، انحدار أسلوب حواراتهم، تعنصرهم وطائفيتهم.
تمنيت على الشباب أن يتحرروا ويبدؤوا طريقا جديدا غير محملين بتركات الرموز، كل الرموز، القبلية والدينية والتجار والليبراليين، كلهم كانوا حملاً ثقيلاً كان على الشباب أن يقودوه ويروضوه لا أن ينقادوا به ويتروضوا تحت سياطه. قلت يومها إننا يجب أن نبقى معارضة قوية، معارضة حكومية ومعارضة ضد الرموز كذلك، فنخلق خيارات أخرى ولا نستسلم لاختيار أفضل الشرين. ذاب كلامي غير المهم كما ذاب كلام الآخرين الأكثر تأثيراً وأهمية بمراحل أمام قداسة الرموز وعظم سطوتهم وكذلك أمام معاناتهم اليوم. تكالبت علينا صور الظلم الواقعة عليهم مع صور الفساد الحكومي الواقعة علينا فأعمتنا عن رؤية الحقيقة ودفعتنا باتجاه تقديس المعارض، أياً كان وحيث كان.
أعلم أن الكلام مؤلم، خصوصاً في ظل اندحار المعارضة وسجن مسلم البراك، أتفهم وأتعاطف جداً مع المتألمين، مع الغاضبين حتى الشتامين الملوحين “بعجراتهم” تجاه كل من يتجرأ فينتقد رموزهم، وحتى مع تناقض الموقف، أي رفعهم لشعار حرية الرأي وعدم قبولهم به تجاه رموزهم، فأنا أتفهم الغضبة والألم. طفح بنا الفساد، وسدت أمامنا الطرق، وأصبح الغضب والتطرف في المواقف سيديّ الزمان. أتفهم كل ذلك ولكن لا يسعني أن أقبله كأمر واقع غير قابل للتغيير.
حرية الرأي لا مساومة عليها، وسجناء الرأي في ضمائرنا وفي أصواتنا، أما تقديسهم والتغاضي عن أخطائهم وما تسببوا فيه من انحدار للوضع وتعميق للطائفية والقبلية والوسائط ورعوية المواطن حتى وصلنا الى حيث نحن اليوم، فلا، سيحاسبون عليها جميعاً، وسنبقى نذكرهم بها. مسلم البراك اختار أن يكسر القانون ويقدم تضحية لإثبات موقف، وها هو يدفع الثمن كما يفعل كل من يختار هذا الطريق، وهو توجه نحمده له ونسانده فيه، أما أن يجبرنا هذا الثمن الذي يدفعه بمحض إرادته على نسيان كل الأذى والتدهور الذي تسببت به رموز المعارضة، فلا، كلهم، بمشاربهم الدينية والقبلية والفكرية، وعلى رأسهم الليبراليون الذين كانوا في الصف الثاني من القيادة، يتحملون المسؤولية، لا مساومة على ذلك ولا استسلام للي الأذرع.