لحظة
إيمانويل كيلي شاب أسترالي لا يَعرف عدد أعوام عمره على وجه الدقة، ولد في العراق إبان الحرب، وجدوه وأخاه في علبة أحذية في إحدى الحدائق فأحضروه إلى دار الأيتام ليقيما فيها بلا شهادة ميلاد، بلا أي أوراق تعريفية. إيمانويل وأخوه شابان بلا أطراف، بلا أيد ولا أقدام، لا أعرف تحديداً إن كان هذا حدث منذ الولادة أم بعدها بسبب الحرب أو المرض. «بدا وكأننا ننظر إلى ملاك حين دخلت أمي مورا كيلي من الباب»، يحكي إيمانويل عن اللحظة الأولى التي رأى فيها والدته التي تبنته، «أحضرتنا إلى أستراليا من أجل إجراء عمليات طبية بداية»، ويكمل: «ومن ثم وقعت أمي نوعاً ما في حبنا».
يتحدث إيمانويل عن قصته هذه عبر برنامج «إكس فاكتور»، إذ تقدم لمسابقة غناء مصرحاً بقصته بكل وضوح: «إن البطل في حياتي هو أمي، لقد بذلت مجهوداً جباراً لتغير حياتي تماماً، البعض يقول إنني ولدت بلا هوية، ولكن بوجود أمي وأخي فأنا متأكد أنني أستطيع خوض هذه التجربة».
غنى إيمانويل على خشبة المسرح أمام أربعة من المحكمين، وأمام الجمهور الكبير، أغنية Imagine أو «تخيل» لـ جـــــون لينين، أتى صوته معجوناً بتجربته.. بمشاعره.. بحقيقية أطرافه تلك التي لم تحـــل بينه وبين وقوفه على المسرح.. بسمرته التي تــحــــكي أصوله الشرق أوسطية.. بقــــوته وبحبه للملاك الذي يقف خلفه، والدته الأســــترالية. صــدح إيمانويل قائلاً:
تخيل أنه لا توجد جنة
من السهل لو أنك حاولت
لا جحيم أسفلنا
فوقنا السماء فقط
تخيل كل البشر
يحيون ليومهم فقط
تخيل أنه لا توجد دول
ليس من الصعب أن تتخيل
لا شيء لتحيا أو تموت من أجله
لا أديان كذلك
تخيل كل البشر
يحيون الحياة بسلام
قد تقول إنني حالم
ولكنني لست الوحيد
أتمنى أن تنضم إلينا ذات يوم
ليصبح العالم واحداً
إيمانويل يحمل اسم والدته التي تبنته، إيمانويل كيلي هو اسمه. إيمانويل ذو الذي فقد أطرافه أصبح فناناً مشهوراً، وقف له الناس تحية على إقدامه وقوته وقلبه الصافي الذي لم تلوثه الظروف والآلام والفقد. هو وأخوه محظوظان بتلك اللحظة، لحظة دخول هذا الملاك الأسترالي عليهما وهما يلعبان بدون أطراف في دار الأيتام العراقية، لتتحول حياتهما ويحظيا بفرصة، فرصة أن يكونا شيئاً آخر غير إعاقتهما، غير فقرهما، غير يتمهما.
كان لوقفة إيمانويل بإعاقته الجسدية وقدراته النفسية الخارقة وابتسامته التي تأخذ بشغاف القلب على المسرح مغنياً «تخيل أنه لا توجد جنة، لا توجد دول، لا توجد أديان» فعل السحر على الخيال، ليشتعل بهذه الفكره، ماذا لو ذابت كل التصنيفات والفروق، ماذا لو اختفت كل الوعود، ماذا لو كانت اللحظة فقط هي لحظة الحياة الخارقة، الثمينة، السريعة، الباهرة، ماذا لو كانت هي كل ما يهم، كل ما نملك، كل ما نحيا؟ ماذا لو كان كل شيء يتمحور في هذه اللحظة ويتمخض عنها؟
ماذا لو بقي إيمانويل في العراق، حيث إعاقته عار، وفقره عاهة، ويتمه لا سبيل لتضميده باسم ملاك جديد مستعد لأن يحمله في قلبه ابناً ولو لم يحمله في رحِمه نطفة؟ ماذا لو بقي إيمانويل وسط ساحة الحرب، بين الشيعة والسنة، بين المسلمين والمسيحيين، بين إيران وسوريا وأسفل طائرات روسيا وأمريكا؟ هل كان إيمانويل ليصبح أداة فن كما هو الآن أم أنه سيكون أداة حرب يتراشق بها الشيعة والسنة، يفترسها المشايخ والملالي، تشرذمها الطائفية والعنصرية والكراهية؟ هل كان إيمانويل ليحظى بهذه الابتسامة العذبة أم أنه سيصبح شاباً ذا لحية منتفة يحملها على وجه متغضن قبل أوانه، يتراكض به قائماً أعلى جسد معطوب على خشبة مهترئة ذات عجلات مصلصلة متسولاً في شوارع العراق؟
أيتها الأقدار الطيبة، كما أنقذت إيمانويل أنقذي العراق الجميل، امسحي الدول والتقسيمات، خلصينا من الخوف من الجحيم والطمع بالجنة، ابقي سماء صافية زرقاء أعلى رؤوسنا لنحيا اللحظة، هي كل ما نمتلك، تلك اللحظة. كل عام والجميع بخير.