لتكن فضيحة
أحيانا أتمنى لو أنني أستطيع ان أرى هذه الدنيا من زاوية الرجال، بعيون الأوصياء، كيف تبدو الصورة من أعلى هذا الجبل الشاهق؟ خطرت لي هذه الفكرة وأنا أشاهد فيديو سجلته سيدة تركية لحالة صدام بينها وبين رجل في أحد شوارع تركيا وهي توبخه بشدة وتطلب استدعاء الشرطة لوضع حد لوصاية هذا الغريب التي فرضها عليها بلا أي حق، لا حق قانوني، ولا حق قرابة، ولا حق إنساني، هي وصاية فرضها هذا الرجل بحكم ذكوريته، بإيعاز من محيطه الذي ينصبه وصياً على كل أنثى وبإرشاد من عينيه التي تلتقط “هفوات” الإناث، وبجرأة من لسانه الذي استطاع إطلاقه فقط لأن من أمامه امرأة.
كيف يا ترى هو الشعور وأنت تمشي متبختراً، ولايتك تجري بين قدميك فقط بسبب جنسك؟ أنت ولي ووصي لأنك ذكر، لك كلمة على أكثر من أربعة مليار نسمة حول العالم بسبب تكوينك البيولوجي الذكوري الذي يفرق، كما هو التكوين البيولوجي للإناث، نصف كروموسوم عن تكوين الشمبانزي. فما الذي يغر الكائن البشري الذكوري ليتصور لنفسه كل هذه السلطة عدا فكرة القوة الجسدية البدائية؟
كانت تلك هي الأسئلة الغليظة التي تدفقت مع غضبي وأنا أشاهد الرجل في الفيديو ينهر امرأة آمراً “غيري لباسك” مشيراً لنقابها، مؤكداً “أنتم” وأتصوره مشيراً للفئة المتدينة التي تنتمي لها هذه السيدة “لا تقدرن العلم والفنون،” لترد عليه السيدة “وهل يكون العلم باحتقار ملابس الناس؟ هل يكون باحتقار خماري هذا؟” ولقد انطلقت السيدة حانقة بالحديث عن “عثمانيها” وتاريخ “الفاتحين الإسلاميين” حين قالت “جدتي حررت هذه الأرض في الماضي بهذا الخمار” وهو الحديث الذي يتناقض وحججها التي ساقتها خلال الحوار حول مفهوم دولة القانون وحول الديمقراطية، فتشدقها “بالفتح” الإسلامي هو تفاخر بحروب وغزوات حولتها أيديولوجيتها الإسلامية السياسية إلى “فتوحات”، ولكن هذا حديث آخر لوقت آخر.
حديث اليوم يدور حول ما يدفع هذا الرجل الذي لا يبدو على سابق معرفة بالسيدة يستشعر الحق في أن يوبخها، إلى أن يشير إلى مظهرها بالنقد، أن يخاطبها بصيغة الأمر أن “غيري لباسك.” لربما يوعز ذلك لغرور أيديولوجي يجعل ذوي التوجه العلماني في تركيا الأتاتوركية يستشعرون سلطة فوق ذوي التوجه الديني من بين الأتراك “الإردوغانيين،” إلا أن هذا إيعاز استثنائي، فالقاعدة دوماً ما تقول بالإيعاز الجندري، حيث يستشعر الذكور السلطة والوصاية والولاية على الإناث أينما كانوا وأيما قوة أيديولوجية امتلكوا والتي تخولهم لأن يوجهوا الأمر أو يطلقوا النقد أو في أفضل الأحوال أن يقدموا النصح، والذي، أي النصح، هو القالب السلطوي الأسوأ والأكثر إهانة في رأيي، كل ذلك انطلاقا من ولاية بشرية عامة ولد الذكور بها، يستشعرونها وكأنها حق إنساني ومكون بيولوجي علمي مؤكد.
معظم النساء في الدول العربية الإسلامية يمكنهن الإخبار عن تجارب مماثلة، هذا الكريه الشكل الذي يمشي بجانبك باصقاً الجملة القميئة “تحشمي يا امرأة” أو ذاك الذي ما أن تقبلي باتجاهه حتى يستغفر ويبسمل ويحوقل وكأنه متجابه والشيطان الرجيم أو أحسنهم تصرفاً وأفضلهم حالاً ذاك الذي ما أن تتلاقين معه في المصعد حتى يعطيك ظهره ملتصقاً بجدار المصعد وكأن شرفه كله مهدد لمجرد وجودك في الحياة. ولقد انتقلت هذه التصرفات الذكورية لإناث تصورت أنها، في الحيز الديني، تنقلب إلى ذكور، فتجد يعضهن يعتقدن بأن لهن الحق في ممارسة البوليسية إذا كانت دينية، وكأنهن، ما أن يصبحن في الجانب المحافظ، حتى يكتسبن وصاية ذكورية يتفرعن بها على غيرهن من النساء.
تلك كلها تجارب متعارف عليها، إلا أن تجارب النساء مع الوصاية تتجاوز المتوقع إلى غير المتوقع، فحتى المحافظات المتغطيات تماماً يتعرضن لذات الاعتداء على حرياتهن، لذات التعدي الذكوري السافر الذي يضطهد اختياراتهن، والمستغرب تماماً أنه تعدي ذكوري تنتهجه كذلك بعض النساء “المتحررات” تجاه غيرهن من “المحافظات”، لتمارس النساء كذلك المنهجية البوليسية الذكورية تجاه بعضهن البعض حتى خارج الحيز الديني، وليساهمن مع الرجال في تأسيس وترسيخ مفهوم التدخل في مظهر المرأة الذي أصبح مشاعاً وموقفاً عاماً يحق للجميع أن يدلو فيه بدلوه.
بكل تأكيد هناك حالات اعتداء أيديولوجية على الرجال كذلك، لكنها لا تقترب من النوعية والدرجة والشيوع الذين تعانيهم جميعاً المرأة. في الحيز الذكوري يحدث أحياناً أن يشعر المتدين بالوصاية في المجتمعات المحافظة على غير المتدين، أو يستشعر العلماني القوة في الدول العلمانية كفرنسا أو تركيا على غير العلماني، إلا أن هذه حالات “أحيانية” لا ترتق أبداً لدرجة الشيوع الولاياتي التي تعانيها المرأة، في تحركاتها، في مظهرها، في حياتها، وذلك من أقربائها، معارفها، الشارع العام، والدولة بقانونها. المرأة بكل تفاصيل حياتها هي المشاع الموضوعي للجميع، هي شأن الجميع، هي عرض وشرف الجميع. تاريخ الأمة بأكملها محفور على جسدها ومُحَمَّل أكياس رمل كريهة ثقيلة على كتفيها.
في الغالب تسكت النساء عن التعديات العامة كما الخاصة، فهي لا تريد أن تخلق فضيحة، أن تجمع الناس حولها في الشارع العام، أن تلفت انتباه المارة ليقيِّموها ويحاكموها من أدق تفاصيل مظهرها لآخر كلمة تنطق بها، وذلك دون أدنى تقييم للطرف الآخر المعتدي عليها، فالعرف يقول هو خطؤها أولاً وأخيراً، إن لم يكن من حيث خلق المشكلة، فهو كذلك من حيث طريقة المرأة في التعامل معها. وبما أن الخطأ خطؤنا في كل الأحوال، لتكن فضيحة بجلاجل، لنصرخ و”نلم عليه الشارع” هذا الذي يتجرأ فيلقي بكلمة أمر شاذة حول مظهرنا أن يتلطف فيعطي نصيحة مهينة حول شرفنا.
هو يعتقدنا غير تقيات في كل الأحوال، والشارع كله يرانا مخطئات بصورة أو بأخرى والقانون في الغالب سيحاكمنا على أنوثتنا قبل أن تقع الواقعة أساساً، فعلام التحفظ؟ وعلى أي فضيحة نتستر؟ وعلى أي صورة اجتماعية نحافظ؟ نحن محكومات قبل أن نولد بقرون، لذا، لتكن الفضيحة بكل جلاجلها. لا تسكتي، ردي عليه إن تجرأ وأطلق باتجاهك تعليقاً أو أمراً أو غلفهما بصورة نصيحة قميئة، ارفعي صوتك فوق صوته، وليكن صراخك أعلى من صراخه. لا تخشي على سمعتك أو صورتك أمام الناس، خشيتنا تلك هي ما جعلت سمعتنا كأنها لوح زجاج سريع الكسر وهي ما حولت صورتنا إلى مشاع يلونها كل من هب ودب. لا تسمحي له أو لها، ذكوريي التصرف، بأن يخوفونك أو يحجمونك، ردي عليهم “نصحهم” واقذفي بتدخلهم في وجههم ولتكن الفضيحة من نصيبهم.