كيف نحن هنا؟
يقول ريتشارد دوكينز إن السؤال العلمي الحقيقي ليس «لماذا» ولكن «كيف»، فليست المعضلة في سبب وجود الجبال، كما يقول في سياق أمثلته، ولكن في كيفية وجودها، فالسؤال العلمي الأسمى لا بد له أن يتناول الكيفية وليس السبب، الميكانيكية لا الدافع، حيث ينحصر العلم وأهدافه في تلك الكيفية وهذه الميكانيكية التي بفهمها يمكن للبشرية التحكم في نتاجها ومعطياتها. وعليه، لا يسعى العلم للإجابة على سؤال البشرية المزمن حول سبب الوجود، لا يحاول مناقشة هدف تكونناعلى سطح الأرض ولا المعنى العميق لحيواتنا القصيرة المسكينة الغارقة في أوهامها عليها. في الواقع، وإلى هذه اللحظة، لا يعتقد العلم بوجود معنى لحيواتنا ولا هدف لزمنها القصير، ولا يعنيه المعنى ولا الهدف في شيء، فأجوبة كليهما لا تنتج شيئاً من احتياجات البشرية ولا تضيف شيئاً لرفاهيتها. لربما محاولة الإجابة على أسئلة كليهما هي، من وجهة نظر العلم، فلسفة مرفهة لمن لديه الوقت والجهد النفسي، لمن لا ينشغل بإيجاد حلول للكوارث البيئية والأمراض البشرية والمصاعب الحياتية والمقبل من احتمالات الفناء الكوني وغيرها من المصاعب الجمة التي تواجه البشرية وعلماءها كل يوم على أرض هذه الكرة الذرية في هذا الكون العدمي الممتد الشاسع البرودة واللامبالاة.
لكن هل استطاع العلم بما يقدمه من برودة الأجوبة أن يريح النفوس البشرية من إلحاح أسئلة لا أجوبة عليها؟ هل تمكن من إقناع الوعي الإنساني بقبول أنه موجود لأنه موجود، وأن لا هدف أسمى لوجوده ولا معنى أعلى للزمن الذي يحياه على هذه الأرض؟ هل استطاع العلم بإجابته الصلفة المباشرة كأنها حديد محمى على جمر أن يسكت طنين هذا السؤال النكبة: لماذا نحن هنا على سطح هذه الأرض؟ العلم صنو العقلانية والمنطق، والوعي الإنساني صديق الفضول وأسير الأسئلة التي تدور حول سبب وجوده ومستقبل ما بعد فنائه، ومهما حاول العلم أن يسر للوعي أن يتوقف عن طرح أسئلة لا طائل منها ولا أجوبة عليها ولا راحة منبعثة مما يمكن أن تكون عليه أجوبتها، يبقى الوعي الإنساني يعذب نفسه بأسئلة كلها ذات أجوبة عدمية يحاول هو كفاحاً مريراً أن يغيرها إلى أجوبة تعزز بقاءه واستمراره الأبدي.
يقول دوكينز ان مجرد كون الفكرة مريحة وتسعد المستمعين إليها، لا يعني ذلك بالضرورة أنها فكرة حقيقية واقعية. وعليه، فإن كل الأجوبة الفلسفية سواء الآتية من الثقافات المختلفة أو النابعة من المفاهيم الدينية القديمة والحديثة والتي تسعى للإجابة على لماذا نحن هنا وإلى أين نحن ذاهبون بإجابات مريحة ذاهبة لامتداد الروح حتى بعد فناء جسدها، هي كلها أجوبة مرغوبة مشتهاة، إلا أن العلم لا يمكنه أن يثني عليها في غياب الأدلة القاطعة حولها، هو في الواقع لا ينشغل بها، ليس فقط لصعوبة إثباتها أجوبتها ولكن للانعدام الحالي لفائدة هذه الأجوبة في الحياة. ولقد كان الفيلسوف الصيني العظيم كونفوشيوس يرفض تماماً مناقشة ما بعد الموت، مؤكداً أننا بعد لم نفهم هذه الحياة، فلمَ نناقش ما بعدها؟
العلم قاس وبارد رغم كل نتائجه الرحيمة على البشرية، العلم جمر حارق وهو يواجهنا بحقائق صلفة عن وجودنا وفنائنا وانعدام أهميتنا، العلم لا قلب له يرحم ضعفنا ويضعضع أرواحنا أمام فكرة فنائها، غارساً سكين أجوبته صدئة حمئة في قلوبنا دون أن تأخذه بنا رحمة ولا شفقة، العلم هو الحقيقة بكل برودها وجمرها، بكل ألمها ولامبالاتها، يسعى البعض منا لتعذيب النفس باكتشافات وأدلة رغم إدراكنا أن «أخو الجهالة في الشقاء ينعم»٭ . العلم العظيم الذي أطال حيواتنا وأنقذ بني جنسنا ونعم معيشتنا على الأرض وأطلق أعيننا ثم أجسادنا إلى الفضاء معني فقط بهذا السؤال: «كيف نحن هنا؟» واحتراماً لجلال العلم ورحمة بنفوسنا، لربما نتوقف عند هذا السؤال دون تعديه لعذابات الأسئلة الأخرى، هل نستطيع؟
٭ البيت لأبي الطيب المتنبي