تظاهرة طلابية في العراق
كوميديا فاشلة
منذ فترة وأنا أعيش في منطقة داكنة من الشعور، من فقدان الأمل في المفاهيم التي طالما اعتقدت أنها أفضل إنتاج إنساني سيساهم في إنقاذ نوعنا البشري من القضاء على نفسه بنفسه. شعور بالحزن مسكين متضخم ساذج أسطوري، لا فائدة حقيقية ترتجى منه ولا يساهم سوى في تفاقم المشكلة، ألوم من خلاله الآخرين وأواسي به نفسي، وأنا لست سوى جزء من ذات المشكلة.
فشلت الديمقراطية في تمكين العدالة من المجتمعات خصوصا من حيث تطبيقها الشرق أوسطي الذي يحولها إلى مجرد “شورى” بسيطة عوضا عن أن تكون رأي أغلبية يحافظ في لبه على حقوق وآراء الأقليات، وهي المعادلة التي تحتاج إلى درجة من الإنسانية والتفتح وقبول الآخر لربما تتوافر في لمحة منها في الدول الإسكندنافية كأفضل مثال حالي.
في مجتمعاتنا الشرق أوسطية أصبحت الديمقراطية مصدر تمكين للتطرف وقوى الظلام، مما يدلل على عمق المشكلة، من حيث أنها تكمن في الشعوب بحد ذاتها التي تعيش على حافة سكين حاد، على جنب هي محافظة تود تغليب الدين، وعلى آخر هي مجرد بشر بسطاء يودون أن يعيشوا ويستمتعوا بالحياة وبما طورته البشرية من رفاهيات ومتع.
ولا يقل فشل النخب المثقفة عن فشل النخب السياسية المؤمنة بالديمقراطية، فالمثقفون هم الأبعد حقيقة عن الشارع العام، يحيون، كما يترد كليشيهيا، في قصور مشيدة من المبادئ والمثل التي لربما هي غير قابلة للتطبيق، يتحدثون بجمل منمقة لا تبني سقوفا فوق الرؤوس ولا تضع ملابسا على الأجساد؛ كلمات لا توفر نقلا مريحا ولا تشتري حتى الطماطم والبصل لوجبة غداء متواضعة.
منذ فترة كان لي حديث مع صديقة مقربة عن المثاليات غير القابلة للتطبيق التي ننادي بها. قلت لها إننا نرفع سقف المطالبات حتى ننال أدناها، وقالت لربما رفع السقف يرفع معه التحديات ويجعل التجاوب شبه مستحيل. لكن، أفكر، هل العمل في القضايا الإنسانية، على سبيل المثال، يحتمل “الاعتدال” و”الواقعية” والمطالبة بالممكن، أم أنه فعليا يتطلب خطابا مثاليا نازع للكمال، حيث أي خطاب أقل منه يعتبر خيانة للإنسانية ومبادئها؟
الخبير الدستوري الكويتي الدكتور محمد الفيلي كتب لي ذات مرة ردا على شكواي التي لا تنتهي قائلا إن سبب انتشار الخطاب العنصري في العالم مرده لأسباب متعددة “منها فشل النخب بإقناع العوام بقدرتها على تقديم حلول ناجحة للمشاكل… انتشار الشعبوية رد فعل أيضا على نخبوية ساذجة”.
راعني أنني ربما أنتمي فعليا للنخبوية الساذجة. ففي عملي في القضايا الإنسانية لا أجده ممكنا القبول بأنصاف الحلول أو الوقوف عند نقاط الاعتدال أو التوافق على بعض التنازلات، ففي هذا القبول وذاك الوقوف وذلك التوافق خيانة للقضايا وأصحابها، ولكن هل العناد مفيد؟ هل التصلب في الرأي، مهما بدا مستحقا وعادلا وإنسانيا، فاعل ومحقق للنتائج في مجتمعات بشرية تحكمها المصالح ويتحكم فيها النفوذ والمال؟
فشلت الثقافة في حل المشاكل الحقيقية وفشلت الديمقراطية في تحقيق العدالة، حيث تعالينا على الواقع ومعاناة أصحابه بالأدوات التي كان يفترض أن توصل الشوارع الإنسانية بعضها ببعض فتوحد الصفوف إنسانيا وتوفر الحلول معيشيا. النخبوية الفكرية والديمقراطية كجزء منها، كان يفترض بها أن تحل إلى حد كبير مشاكل الفقر والعنصرية في العالم، وإن بشكل غير مباشر من حيث أن الديمقراطية، بمعناها ومفهومها الصرف، ليست وصفة سحرية لتحقيق كل هذه الغايات السامية.
الثقافة والديموقراطية كان يفترض بهما أن يفرضا درجة من العدالة ويوفرا درجة من الحلول الفاعلة، فإذا بهما يساهما في تعميق المشكلة وتجذيرها بل وإعطائها غطاء استحقاقيا قميئا مصنوعا من الخوف والطمع. يبدو لي هذا الفشل عاما في العالم أجمع ولكن أوضح صوره هي شرق أوسطية، فديمقراطياتنا المزعومة أتت باستبداديات دينية خطرة وقفت عند حافة التطرف والإرهاب لتسوغ تلك بدورها، بعد فشلها وانتشار حالة من الهلع منها، لتسيد الديكتاتوريات “المتنورة” التي يرى فيها الناس اليوم الحل الوحيد، دون أن يلاحظوا الأفعى السام الذي يحوم حول فلسفة عرشها.
أما فشل نخبنا المثقفة، فذاك فشل أسطوري اللهم لا حسد. فمثقفينا في واد والناس بمشاكلهم في واد آخر تماما، وكأن حال الإثنين أن ذاك يقول هذا ثور وهذا يقول احلبوه. بل إن كلمة مثقف أصبح لها صدى كوميدي في عالمنا العربي اليوم، مرتبط بمواصفات شكلية كوميدية وبتصرفات منفصلة عن الواقع بظُرفها الفاقع.
حتى يصبح مثقفونا فاعلين، عليهم أن ينزلوا الشارع ويلطخوا أياديهم المتعودة على تصفح الكتب بأوساخه. وحتى تصبح ديمقراطياتنا حقيقية، علينا أن نصنع ثورة فكرية تغير العقول لا الأشخاص. إلى أن يحدث ذلك، كلنا فشلة بشكل كوميدي أو كوميديين بشكل فاشل.