تظاهرة تطالب بدولة علمانية في لبنان
كلنا كفار
لم ينقطع الحوار، على إحراج استمراريته، حول العلمانية في عالمنا العربي الإسلامي في يوم، وهو ليس حوارا بالمعنى الدقيق، هو معركة، يتهم من خلالها المتدينون العلمانيين بالكفر والإلحاد، ويدافع من خلالها العلمانيون بشكل بائس ومثير للشفقة واعتذاري متخف خلف ألف عذر وتبرير عن هذه العلمانية رغم قدمها وانتهاء الحوار العالمي واقعيا حولها، فهي اليوم تحصيل حاصل، جزء لا يتجزأ من المنظومة المدنية الإنسانية، لا تحتاج تسمية ولا تحتمل نقاش.
أشارك في هذا الحوار المسكين من فترة لأخرى، أتناظر وأتناقش وأحاور، وطوال الوقت أشعر وكأنني خارج منظومة الزمن، كأنني ألوك وأجتر بلا هوادة، وبما أصبح مدعاة سخرية وشفقة، ما بلعه بقية العالم وتغذى عليه وكبر وقوى به.
قبل سنتين كنت طرفا مناظرا حول العلمانية، وقبل أشهر قدمت ندوة حولها، وقبل أيام دار صراع تويتري بشأنها ربط خلالها المتحاورون بشكل سريالي غريب بين العلمانية والفاشية والنازية وإلحاد هتلر (وهو غير حقيقي) ووحشية ستالين (وهي غير ذات علاقة)، بل إن إحداهن كتبت تقول ما معناه إنه بينما العلمانية “لا تأمر بالإجرام لكن لا تمنعه” وهي الجملة التي بقيت أتأملها مطولا دون أن أعرف كيف يمكن فعليا الرد عليها.
وددت لو أقول لها إنه بذات المنطق يمكن القول بأن الأديان الحديثة (والقديمة كذلك) لا تأمر بالعبودية لكن لا تمنعها إلا أن هذه الجملة، بلا معنى حقيقي وبلا حجة ذات صلة، ستكون استعدائية وستقود إلى نقاش بعيد عن الفحوى.
وعليه، فقد قلت شيئا آخر؛ قلت إن العلمانية ليست حلا سحريا، هي لا تحل المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ولا تكشف المستقبل ولا تشفي العليل ولا توفق رأسين بالحلال، هي ببساطة فكرة سياسية، استُنبِطت من فكر فلسفي أسبق عميق، تشير إلى أن استقرار المجتمع يكمن في التعامل السياسي والقانوني العادل مع كل أطرافه، ولذا، على الدولة الحديثة أن تقف على بعد واحد من كل مواطنيها بدياناتهم، ولا يتحقق ذلك سوى بفصل السياسة والقانون عن السلطة الدينية.
ولقد كتبت الدكتورة مشاعل الهاجري في مقدمتها لكتابها المترجم “نظام التفاهة” تقول “لدينا مصطلحات يرفضها العقل الجمعي العربي ابتداء، حتى أن باب النقاش بشأنها صار يقفل من قبل أن يبدأ. من هنا، ولضمان السلامة، أصبح من الأسلم الاستعاضة عن كلمة “علمانية” بكلمة “مدنية”، وعن “الفلسفة” بـ “التفكير النقدي”، واحتالت بعض الدول العربية على الحساسية الدينية فاستبدلت كلمة “قانون” بكلمة “نظام” وكلمة “فائدة” تحولت إلى “مرابحة”، وهكذا دواليك” (44).
أتذكر قبل فترة أن تجمع عدد من الشباب والناشطين في محاولة لخلق تنظيم علماني واضح في الكويت، وكان أول ما فككه هو الاختلاف على التسمية، فمنا من أصر، وأنا واحدة من هؤلاء، على أن تكون التسمية واضحة مباشرة مع السعي الحثيث على تغيير فهم الناس لها ومَنطَقة معناها من خلال الأمثلة التاريخية والفلسفية؛ وجزء آخر منا من أصر على تغيير التسمية لتسهيل الحصول على تصريح إنشاء التنظيم أولا ولتخفيف وقع “فعلتنا” على الناس ثانيا، كيف سيكون هناك أعضاء راغبين بالانضمام لتكوين اسمه فيه كلمة تشير للإلحاد طبقا للعقلية العربية المسلمة؟ من هنا فشلت الفكرة قبل أن تبدأ.
بعد ذلك بفترة، أنشأ مجموعة من الأصدقاء الجمعية الليبرالية في الكويت، والتي ما انفكت المصائب تقع على رؤوس مؤسسيها منذ توقيت إنشائها، فمن مشاكلها مع وزارة الشؤون الاجتماعية التي حلت مجلس إدارتها ودفعت بهم لتغيير بعض شخوصه إلى متاعبها مع المعنى المتجذر لتسميتها في عقول الناس والذي يشير للانحلال والخروج عن كل الأعراف والتقاليد. تتصارع هذه الجمعية بشكل يومي مع محيطها، ويعاني منتسبيها كل يوم ومع كل محاولة منها لتقديم نشاط أو إثبات موقف.
كيف يا ترى تتصارع، بأخلاقية، مع فكرة هلامية، مع مفهوم غير موجود، مع معنى غير حقيقي، ومع طرف لا يريد أن يسمع أصلا ممن عنونهم كفار عبيد الإمبريالية الغربية؟ نأتي بأمثلة من التاريخ، نتحدث عن فلسفة ابن رشد كأحد أوائل منظري العلمانية بما يدل على أن هذه الفلسفة هي نتاج فكر إنساني تراكمي قديم.
نقدم حالات علمانية معاصرة كتركيا المسلمة وأميركا المسيحية (مع التحفظ على توصيف الدول دينيا فيم التوصيف الصحيح هو لقاطنيها)، نبين مسيحية هتلر التي أقرها هو بنفسه في كتاباته، نسوق مثال الحريات الدينية الموجودة في الدول الغربية العلمانية وما تتيحه هذه الحريات المحفوظة بعلمانية القوانين من فرص بناء المعابد ومن حرية ليس فقط ممارسة الدين ولكن نشره وتسويقه كذلك.
نخلق عالما خياليا لدولنا العربية بتحولها للعلمانية لنثبت من خلال هذه القراءة المتخيلة للوضع أن مجتمعاتنا لا يمكن أن تصبح متحررة في يوم بدرجة تحرر المجتمعات الغربية، حيث أن العادات والتقاليد والسلطة الاجتماعية تفوق قواها الردعية بمراحل قوى القانون والسلطة السياسية، مما سيبقي محافظة دولنا قيد العناية والتطبيق.
نزيد ونعيد ونجتر كلاما بائدا قديما، ما عاد أحد في العالم يقوله، نناقش ونناظر حول مفهوم هو بذاته أصبح تحصيلا حاصلا وشيئا من الماضي، نلف وندور ونغير العلمانية إلى مدنية، الليبرالية إلى “حرية مقننة” ونحاول بشتى الطرق، التي تبدو مسكينة أحيانا ومبتذلة أحايين أخرى، لنثبت محافظة العلمانيين، أنهم ليسوا منحلين، أنهم يصلون العصر في وقتها، كل ذلك ولا فائدة، نلف ونعود لرأس الاتهام: كلنا كفار.
تقول د. الهاجري في طرحها لحل لهذه المعضلة اللانهائية أنه “لا بد من تعلم لغة عالمية يتكلمها الجميع، هذه اللغة تسمى المنطق، وأبجديتها هي الأفكار، أما حروف العلة فيها التي تربط بين حروف هذه اللغة وكلماتها فيسمون فلاسفة وأدباء” (45)، ولكن السؤال الكوميدي يبقى ملحا: “نعرف إيه عن المنطق” يا ترى؟