كلام ولا في الأحلام
على امتداد تاريخنا، منذ أن بدأ لنا ظهور عربي إسلامي، ونحن ننتظر المخلص، بطلاً ما يخلصنا من مآسينا، ينتشلنا من الضياع، يقضي على الأشرار وينتصر للأخيار، يحق الحق ويزهق الباطل، شخصاً واحداً، كلنا نلتف حوله، بل نقف خلفه، يأمر فيطاع، نحبه ثم نقدسه ثم نجمده صنماً معبوداً ثم بعد أن نعبده بإرادتنا نخافه ونرتعب منه ثم نمل ظلمه الذي أحييناه بأنفسنا ثم ننقلب عليه فنكسره، ونعود لننتظر مخلصاً جديداً ونبدأ معه الدورة من جديد.
لطالما نظرت إلى أحداث 30 يوليو على أنها وقع سياسي جديد، حالة ما بين الثورة والانقلاب، هي أقرب إلى الثورة في رأيي بحكم خروج الملايين من الشعب للشارع، ولها مسحة انقلاب بحكم تدخل العسكر.
اليوم، انعكست الآية، فأصبح الوضع أشبه بالانقلاب منه إلى الثورة وذلك بحكم التعامل اللاحق مع كل من يقول كلمة مخالفة، لكل من ينتقد المشير السيسي، فأُغلقت القنوات وأُلقي القبض على الناس، ومن جديد بدأ الشارع يصنع المخلص الجديد، ينحته نحتاً، غير واعٍ أنها لربما بداية النهاية.
ليست هذه حالة مصرية خاصة، إنها حالة عربية إسلامية عامة، رأيناها على مر التاريخ، يعجب الناس ببطل ما إلى حدّ التأليه، يظلون ينفخون في غروره ويعظمون في أناه حتى يتحول إلى طاغية، وأول ما ينقلب، ينقلب عليهم ليأكلهم.
لربما كان برنامج باسم يوسف المرآة المكبرة الفضلى لمن يريد أن يرى واقع الحال المصري اليوم، حتى إن كان يختلف مع باسم في النظرة والرأي. استعرضت الحلقة الأولى من الموسم الجديد على الـMBC تغلغل أثر المشير السيسي في حياة الناس اليومية، فهو في مشربهم وملبسهم ومأكلهم، هو في “كب كيكهم” وعصيرهم وعلى جينزاتهم، هو في فنونهم وحتى في أحلامهم، هو الحل الكبير، الأول والأخير في مصر الآن.
ليس هذا الشعور الغامر بحد ذاته مشكلة، إنما المشكلة فيما يلي ذلك، في تحول هذا الحب إلى تقديس ثم إلى تأليه يقودان إلى تحويل أي إنسان، مهما بلغت درجة حكمته وإخلاصه، إلى دكتاتور مريض بداء العظمة لا يمكنه أن يرى في مرآة بلده سوى نفسه.
لو كنت مكان المشير السيسي وأردت إثبات أنني مختلف، أنني غير قابل للتحول مثل دكتاتوريين سابقين، لحضرت إحدى حلقات “البرنامج”، على “صاروخية” هذا الاقتراح، ولضحكت مع الناس ومع باسم على نفسي وعلى أخطائي وأخطاء غيري، ولتقبلت النقد “الباسم” من باسم قبل أن يتحول في غمضة سنوات إلى غضبة مختنقة مضغوطة لا تلبث أن تنفجر في وجهي.
ينتهج باسم يوسف منهجية ما بعد حداثية في النقد، يضحك من الأخطاء، ويسخر من الآلام، ويضع نفسه في “ملطش” الهواء، فيبدأ بنقد الناس له، يضحك عليه وبه، ثم يستخدمه لينطلق إلى نقد الآخر، الآخر السياسي والإعلامي والشوارعي، الآخر أياً كان موقعه وموقفه.
ولأن السخرية أسلوب النقد الحديث، تضحك بها على أخطائك بدلاً من أن تجلد بها نفسك، لأنها الطريق إلى تنقية القلب والعقل من التعنصر والتحزب، فالمضحك يضحك الجميع، وخفة الدم تدغدغ الكل، لا تقف عند انقلابي أو ثورجي، ولأنك ترى الصورة أوضح عندما تضحك أكثر مما تراها عندما تبكي، كان برنامج “البرنامج” ذا التأثير الأوقع، وكان باسم يوسف الشخصية المؤثرة الكبرى، وذلك للمعترضين قبل المتابعين وللساخطين قبل المؤيدين، “فالحدوتة” أجمل إذا كانت مضحكة وحدوتة باسم، ليست فقط المسرودة في الحلقات، بل تلك المعروضة في إيقاف “البرنامج” وتتابعه، في تنقله من قناة إلى أخرى، هي حدوتة رائعة الفكاهة، يستخدمها باسم ليضحك بها على نفسه وعلى برنامجه وعلى “البهدلة” التي أصابت الطبيب بعد أن قرر أن يصبح إعلامياً، حدوتة هي في حد ذاتها تحكي واقعنا وتجسد مصابنا، لكنها تحكي بفكاهة وتجسد بخفة دم، تجعلنا نستطيع أن نستمر، يوماً بعد يوم، ضحكة بعد ضحكة، فلربما استطاع الضحك أن يحقق ما لم تستطعه عقود من العويل.
برنامج رائع وطرح جريء يستخدم كل وسائل النقد المتاحة للكبار، خبطة على الرأس، “زغزغة” في الخاصرة، لربما نصحو على صوت ضحكاتنا بما أن الصراخ والبكاء لم يوقظا هذه الأمة من مصابها التاريخي الدائم. فقط لو أن المشير السيسي يحدث هذا الفرق الهائل، يحضر “البرنامج”، يضحك مع الناس، عليهم وعلى نفسه، لربما بهذه الضحكات البسيطة، تنقلب الأحوال تماماً، ولربما، أقول لربما، بحضور السيسي لبرنامج “البرنامج”، وباطلاقه العنان لضحكاته، لربما قضى على “المخلص” الموهوم الذي لاتزال منطقتنا تعيش على ذكراه، لربما خلق لنا بطلاً جديداً، إنساناً حقيقياً، يضحك ويبكي، يخطئ ويصيب، إنساناً قابلاً للنقد وقابلاً به، بطلاً وقائداً عربياً يدرك، مرة واحدة يدرك، أنه ليس إلهاً وأنه في الواقع زائل. صعبة شوية؟ أدري، لكنني لا أزال أحلم به، أنتظر مخلصاً يخلصنا من “المخلص”