كان في إنسان
كان ياما كان، كان في إنسان، وقبل أن يكون إنسانا، كان كائنا مائيا وحيدا وبدائي الخلية، خلية كانت هي بداية كافة أنواع الحياة التي نراها اليوم. تطورت الخلية إلى كائن مائي كامل فزحف على الأرض متحولاً إلى كائن برمائي، ثم بري، فكان فيما كان، كان ساهيلانثروبوس وكان أرديبيثيكس ثم تفرع فيما تفرع إلى آي أفريكانوس وإلى بي روبوستوس، ثم تطور فيما تطور إلى أتش هابيليس وهومو ايريكتوس ثم هومو سيبيان، فصيلنا نحن، هذا الفصيل المتوحش الذي قضى على كل ما صادفه من مخلوقات وفصائل أخرى. استقام الإنسان، ثم اكتشف النار، ثم اخترع اللغة أو تطورت هي معه بيولوجيا، ثم مارس الفنون البدائية. عبد هذا الإنسان الطبيعة، ثم عبد الأنثى، ثم عبد إناثاً عدة وذكوراً عدة، ثم انتقل للإله الواحد. انقسم هذا الإنسان إلى طبقات واحتل مراكز قوى، فأصبح هناك القائد والمقود، المالك والعبد، المتحدث باسم الإله والمستمع المطيع.
كان ياما كان، كان في إنسان، كثرت أعداده وتعددت أنواعه وأصوله بعد أن كادت تقضي عليه الطبيعة والأمراض حتى ليقال إن عدد البشر على الكرة الأرضية كلها، في مرحلة من المراحل، لم يتعد الآلاف القليلة. عظم هذا الإنسان بني جنسه فأنشأ لهم الأضرحة، وبنى حولها القصور والمعابد، فتشكلت المدن، واستقرت الحياة، وأول ما فعل هذا الإنسان أن صنع الأسلحة وكوم الجيوش. كان الإنسان يغير على أخيه الإنسان من أجل الطعام، ثم أصبحت الغارة من أجل مخزون الطعام، ثم من أجل المعادن، ثم من أجل الأرض، ثم بعد أن خدع نفسه وصك النقود، من أجل المال. تتابعت حضارات الإنسان، تارة يسميها بأسماء الأماكن وتارة بأسماء الأديان. كتب هذا الإنسان أول قانون وسعد به، ولم يعلم صاحبه، حمورابي، أن باسم قانونه وباسم قوانين أخرى كثيرة سيتعذب ويهان ويقتل الإنسان.
كان ياما كان، كان في إنسان، تجول هذا الإنسان على كل البقع الصلبة من الأرض، فخططها ووزعها محاصصة. رسم هذا الإنسان خريطة، فوضع مناطق في الجنوب ومناطق في الشمال دون منطق واضح، ولأن لهذا الإنسان سيكولوجية غريبة، فقط تطبع بطبيعة موقعه، فكان نصيب الجنوبيين النصيب السفلي من الأشياء ونصيب الشماليين النصيب العلوي منها في معظم الأحيان. احتل الشمال الجنوب، وغارت الإمبراطوريات ثم الدول على بعضها بعضا بدموية بدائية. توحشت إسبانيا في هجومها على الحضارة المكسيكية، وطغى الإنسان الأبيض إبان تكوينه “للعالم الحر” في أميركا. دهست أوروبا إفريقيا ومعظم آسيا بأحذيتها الجلدية الجديدة، وفحش الشرق الآسيوي بين بعضه البعض. ثم تضارب اليمين الأقصى باليسار الأقصى لتنفجر أكبر مأساة بشرية عرفها هذا الإنسان متمثلة في القنبلة النووية التي أصابت هيروشيما وناغازاكي. ولكن لحظة، سبقت هذه المأساة المحرقة النازية لليهود، والمجازر التركية للأرمن، وتبعتها حروب الإبادة بين التوتسي والهوتو في راوندا، وبين البوسنة والهرسك وصربيا في البلقان. تركت أكثر مما ذكرت، أدري، ولكن من أين لبشر منفرد ذاكرة تجمع كل مآسي وفواحش بني جنسه؟
كان ياما كان، كان في إنسان، وصل جنسه لما يقرب من المئتي ألف سنة من العمر، ولا يزال يستخدم يده ليقتل بني جنسه، ولا يزال يجيش جيوشه من أجل اللقمة، وإن تغير تعريف اللقمة، ولا يزال يسنّ سكاكينه من أجل ربه، وإن لم يعرف هو من ربه. وفي خضم كل هذا العنف والأسى، حاول العالم دفن مصائبه وتخزينها في بقعة واحدة، فدفع بها ودفع حتى تكومت في منتصف الكرة الأرضية، بالضبط في شرقنا الأوسط المنكوب، مكب النفايات. كنس العالم الصهاينة إلى فلسطين، واعتقد أنه دفع بالتراب تحت السجادة. إلا أن نفضة حدثت فثارت الزوابع، ومن وقتها فُقدت الرؤية تماماً في إقليمنا المسكين. قتال في لبنان، قتال في العراق، قتال في ليبيا، ثورة هنا وثورة هناك، تخمد ثورة يصحو إرهاب، يخمد إرهاب تصحو فاشية، قلاقل تونس ومصر، أسى اليمن، عذابات البحرين، مجازر سورية. اضطرابات السودان، حروب الصومال. مثلثات شر تمول النظام السوري، مثلثات شر تمول النظام العراقي، عنصريات تقتل اليمنيين، تضطهد البحرينيين. شرق أوسط متناقض متصارع مريض، يعيش في عواصف ترابية مستمرة منذ كنس الآخرون تراب الصهاينة تحت سجادته المهترئة.
كان ياما كان، كان في إنسان، إنسان يعيش على الكرة الأرضية، مخلوق بائس مسكين سينقرض بعد سنوات قليلة، أطولها خمسة بلايين سنة عندما تصطدم المجرة المرئية رؤى العين بأرضه الجميلة. هذه نهاية قادمة لا محالة وذلك إن لم ينه هو جنسه بنفسه قبل ذلك بكثير. كان ياما كان، كان في إنسان، ما إن انقرض، حتى ازدهرت الحياة على الأرض وأينعت، اخضرت وطابت وصفت، غاب التلوث وبقيت زقزقة العصافير. كان ياما كان، كان في إنسان، هكذا ستحكي حكايته الكائنات الفضائية التي ترقبه من بعيد، بذهول وحزن وانبهار شديدين.
“آخر شي”:
كل الشكر للدكتور محمد قاسم الذي اطلع على الجزء الأول من المقال وقدم نصحا ومعلومات قيمة حول موضوع بداية الحياة والحضارة.