قناع
الحرية والأمان، أي تاج أعز من هذين؟* أن أكون حرة، أن أعيش هذه الحياة الواحدة الوحيدة لي على الأرض بشكل حقيقي، أحياها كما أراها، كما أصدقها، بأفكاري الحقيقية ووجهي المشكوف، لا بألف قناع يغطي وجهي، ألف حسبة أناهض بها مشاعري، ألف صوت أقدمها على صوتي وعقلي وقناعاتي. أن أحيا بلا خوف، بلا نفاق، أواجه من أختلف معهم، أصارح نفسي قبل غيري، أقف صريحة واضحة في مواجهة كل السلطات المجتمعية والإنسانية، لا أخشى على حياتي ولا سمعتي ولا أمني ولا معاشي، مثل هذه الحياة تشير إلى صحية المجتمع وصحية أفراده، تعني الرضا والاستقرار والهدوء النفسي، هي حياة صاخبة بتضاد الآراء وتكاثرها وتنافرها، لكنها هادئة آمنة برضا كل الأطراف، وتساوي نصيبهم من الحرية وخلو نفوسهم من ضغوط الكذب والتزييف والكبت.
من هنا يتجلى مصدر كل أمراضنا، فنحن نعيش حياة زائفة في معظمها، نمثل جل يومنا، نغطي ونزين وننمق حتى لا تطولنا الأحكام القاسية التي تعزلنا، لا نصرح بما نفكر ونشعر حتى في دخيلة قلوبنا، وفي خصوصية عقولنا، فهناك دوماً من يراقبنا ويحاسبنا حتى بتنا نخاف أن نفكر ونتساءل في خلوتنا مع أفكارنا. فدينياً، نمّط رجال الدين العلاقة بين الإنسان وخالقه حتى أصبحت مرضية، يطلبون من الإنسان أن يحب الله ويخافه، يحملونه مسؤولية تصرفاته، ويؤكدون أن الخالق شكل حياته بالكامل قبل حتى أن يولد، يجبرونه على تغيير طبيعته التي خلقه الله بها ومعها، لأنها قاصرة خطاءة آثمة، فكيف يصنعك الله بكل ذلك ثم يطلب منك تغييره؟ ما العلاقة التي يرسمونها سوى علاقة مرضية، يؤسس لها خوف ساحق يمنع الإنسان من التساؤل حول كل ما لا يفهم، حول كل ما يرجو أن يفهم، فعقل الإنسان في منهجيتهم محدود، والسؤال الذي يبتعد عن فهمه يحرم عليه، حتى لتجد الإنسان يستغفر إذا ما خطر له سؤال لا يملك استحضاره ولا إبعاده، نظام أبوي صارم يعد علينا أنفاسنا وأفكارنا وتساؤلاتنا، ثم فوقه بأكمله، لابد أن نضع “كريمة” محبة وفوقها “توتة” الاشتياق لنزين نظاماً نفسياً متهاوياً منهاراً ونخفيه عن العيون والنفوس.
وأما سياسياً فهناك ألف عرف وألف حد، وهنا كذلك تستخدم المحبة المحشوة بالخوف لتمنعك من حرية رأيك. فأنت تحب بلدك، كل نقد له إذن هو خيانة، أنت تحب حاكمك، كل اعتراض إذن هو مساس، أنت مصدر السلطات لكن اعتراضك بلطجة ومشاركتك تدخل فج، نحن بلد الحريات، فقل ما تشاء، طالما أنك لم تمس، وأنك لم تغلظ القول، وطالما أنك راعيت مشاعر الطوائف المختلفة، وأخذت بالاعتبار حساسية أبناء القبائل، واحترمت الخطوط الحمر لأبناء الحضر، وطالما أنك لم تدع إلى اعتصام ولم تمش في مسيرة، وطالما أنك فكرت مئة وأربعين مرة في المئة وأربعين حرفاً التي ستكتبها على “تويتر”، ويا حبذا لو لم تشر إلى الدين فلسفياً أو لمناقشة الوجود الإلهي، ولو أنك تجنّبت التاريخ الإسلامي والبحث في علاقات الصحابة وتاريخهم، ولو أنك ما خضت في التاريخ السياسي الحقيقي للكويت وفي مسيرة الأسرة الحاكمة، كن دوماً حصيفاً، فليس كل ما يعرف يقال، ولا ضرورة للأبحاث العلمية التي قد تثير القلاقل، فما لا نعرفه لا يضرنا، وهكذا نحن، أفضل ونحن لا نعرف.
في الحقيقة، وبخلاف الكذب الصريح، فليس لحرية الرأي حد، أن يكون رأياً سيئاً أو طيباً، أن يكون رخيصاً أو نفيساً، أن يكون راقياً أو وضيعاً، فهو رأي وله ذات المساحة، وإن لم يستحق ذات الاحترام. أن تفسح لألف رأي سيئ المساحة للخروج والتنفيس أفضل من أن تكتم رأياً طيباً واحداً خوفاً من الحرية واتقاء تداعياتها. حتى نتعلم هذا المنطق ونهضمه تماماً، حتى نستوعب أن حرية الرأي هي أغلى وأثمن مبدأ إنساني يجب ألا يتعداه أو يعلوه مبدأ، حتى نؤمن أن ثمن الحرية دوماً سيبقى قليلاً مقارنة بالمكتسبات الناتجة عنها، سنبقى ندور في حلقة مفرغة من الاتهامات بالأذى النفسي، أنت جرحتني برأيك وأنا جرحتك برأيي، فنضع ألف مقياس للرأي المهذب، وندور في ألف ساقية مما يجوز ولا يجوز، ونضع ألف سقف، ونرسم ألف خط، كل على مشتهاه وقدرته الاحتمالية، فننسى الرأي، ونتجاهل الفكرة ونبقى ندور حول طريقة التعبير عنها.
حرية الرأي مقدسة، فإذا تعرضنا لقدسيتها فسيكون نصيبنا ناراً كاوية من الاختلافات والصراعات التي لن تخمد. الحرية، مصدر الأمن، رونق الحياة، أصدق السبل وأسرعها للحقيقة.
*اقتباسات من قصيدة الصبا والجمال لبشارة الخوري، غناء محمد عبدالوهاب.