قرابين صغيرة
في رابع أيامه في المستشفى وفي سويعات هدوء جمعتني بوالدي وحدنا في الغرفة أسرّ لي: “لم أنم طوال ليلة أمس”. بادرته “ما الخطب بابا، عسى ما شر؟” أخبرني هو بانشغال باله بكتاب حقوق الطفل في العالم العربي الذي يعكف على تأليفه حالياً، وأن هناك زاوية مهمة يريد إضافتها له.
“حقوق الأطفال مهدرة في عالمنا العربي الإسلامي،” أخبرني والدي، “تاريخياً نحن لا نضع قدْر للطفل، لا لحياته ولا لقيمتها ولا لجودتها”، لابد أنه استغرق ليلاً وهو وحده في غرفته في بحثه الإنترنتي الذي يأخذه أحياناً إلى زوايا مظلمة، مما جعل موضوع تخطي التنظير حول حقوق الطفل إلى حيز تفعليها يأخذ عليه تفكيره تماماً.
افتحي الإنترنت واكتبي اسم “علي الأكبر” أو “عبدالله الرضيع” واقرئي لي بعض مما سيظهر لك من مواد بحثية”، استغربت طلبه، فرغم معرفتي أن المُؤَلف هذا سيختص بحقوق الطفل قانونياً مع مقدمة حول المنظور الإسلامي لحقوق الطفل، إلا أن طلبه لاسم عبدالله الرضيع تحديداً أثار فضولي.
قرأت له بعض مما ظهر لي على المواقع الشيعية وشيئا آخر مما ظهر على المواقع التاريخية، حيث كان يعلق هو وكأنه يسجل ملاحظات ذهنية لنفسه، ليرتج صوته فجأة مقاوماً غصة كانت تُصارع إرادته على تحرير نفسها. “ما المشكلة بابا؟ لماذا يأخذك هذا الموضوع إلى كل هذا الحزن اليوم؟” اعترف لي والدي حينها اعترافاً خلاباً أنه يستشعر التأنيب والتقصير، لأن الكتاب لا يحتوي على خطة عملية لإنقاذ الأطفال، هو يريد لهذا المشروع أن يكون نقديا ونظريا وعمليا كل في آن.
سألته: “لماذا طلبت مني أن أبحث حول عبدالله الرضيع تحديداً وأنت الذي لم يكن لك منظور مذهبي بحت في كتاباتك القانونية المدنية؟”، فبادرني وقد تبدى استياء جاد على وجهه: “يا بنية، دعي عنك الجانب العاطفي للموضوع، واتركي الرواية الشيعية المشحونة، حقيقة الأمر، أن قصة عبدالله الرضيع هي مثال حي للتراخي التاريخي الحقيقي تجاه حقوق وحياة وأمن الطفل، لهذه الفجوة بين الفلسفة الإسلامية تجاه الطفولة والتطبيق الثقافي لهذه الفلسفة، فمنذ أن اخترق السهم رقبة هذا الطفل، ونحن مستمرون في قتل الأطفال كل يوم بأسلحة المبارزة السياسية دون أي بادرة اتعاظ ديني أو أخلاقي”.
أخذ والدي يسرد على عادته الروائية “حين أخرج الإمام الحسين طفله الرضيع أمام الملأ ليطلب له رشفة ماء، انقسم الفريق المضاد على نفسه، نصف مؤيد لسقي الطفل ونصف معارض، وتخوفاً من تفشي العداء بين الفريق، تم إعطاء الأمر بقتل هذا الطفل الرضيع، وهكذا كان. تتفق كل الرويات الإسلامية، بشقيها الشيعي والسني، على قصة مقتل الطفل عبدالله، فهل تم تفعيل هذا الاتفاق في فلسفة إسلامية لحماية الطفل؟ أي تغيير حقق الإقرار بهذه القصة على المستوى الإسلامي على الأقل، بما أن هذه القصة من عمق الثقافة الإسلامية، في مصائر الأطفال وفي ضمان أمنهم وحقوقهم؟”
وأضاف “اليوم أطفال العراق واليمن وسوريا وغيرهم، هم دائماً رؤوس الأخبار التي تظهر إبان وبعد أعمال العنف البشعة، هم دائماً أول الضحايا. منذ فجر البشرية وإلى أن قتل عبدالله الرضيع، وصولاً إلى إيلان الغارق في البحر المتوسط ونحن نقتل الأطفال، نقتلهم بالسهام، بالسيوف، رمياً بالرصاص، تفجيراً، غرقاً، نستخف بهذه الأرواح الثمينة البريئة لتحقيق الأهداف السياسية، لتحقيق الانتصارات في الحروب، لتوحيد صفوف الجيوش. هل تتخيلين؟ نقتل الأطفال لكي “تحيا” التحالفات وتقوى الجبهات السياسية”.
كلمني والدي مطولاً عن الجوانب البحثية في الكتاب، وقد كنت قرأت مقدمته فقط، فأخبرني أن حقوق الطفل لا تقف عند حد الحماية والأمن والحياة والتعليم والصحة فقط، ولكنها تتعدى ذلك إلى الحق في التواجد في أسرة، الحق في السعادة والترفيه، الحق في الإثراء الذهني، الحق في “اللاحزن”، في أن يكون الطفل محمياً من أوجاع الروح وأحزان القلب.
أدار والدي كلماته مطولاً محاولاً العبور من لحظة رمي السهم اختراقاُ لرقبة عبدالله الرضيع إلى اللحظة الحاضرة التي تدور حول أُمنية ضمان الحماية والعدالة والسعادة الترفيهية لأطفال العالم أجمع. “لابد أن أفعل شيئاً” قالها وهو يمسح نظارته من بلل عينيه، “لابد من خطة حقيقية لا الكلام التنظيري فقط”.
وعدته أني سأعمل معه على نشر فكرة محاولة تحويل الكتاب من كلمات لأفعال، أني سأتبع خطوه لنصنع من قصة تقديم طفل رضيع قرباناً لنصر سياسي حكاية أخرى، ربما حكاية طفل دماؤه ودماء أقرانه قد غسلت العالم من أدرانه، طهرت الدنيا من الشرور والآثام، وحقنت دماء كل الأطفال في القادم من الأيام.
على ذلك السرير، في ذلك المستشفى، أخذني الألم والأمل والحماس، أمسك بقلبي شعور الذنب بركود العمل وشعور الفخر بخطوة صغيرة يأخذها والدي قد تشجع وتحفز هذا العمل. هاجت روحي وماجت وأنا أخبر والدي، بصوت علت نبرته بما لا يتلاءم والهدوء المطلوب في المستشفى، أن الحماس الساكن في قلمه، والألم الرابض في رجرجة صوته، واللوم المتخفي في الغصة التي يقاومها ستحدث فرقاً، وأن الفرق قد يبدأ من أبسط اللحظات، من حوار خاص بينه وبين ابنته.
ربّت والدي على يدي وشكرني على حماسي. علمت أن الكلام قد انتهى حين استدار هو برأسه لتنعكس كلمات شاشة الكمبيوتر بزروقتها على عينيه. بدت اللحظة معذَّبة مقدسة، تعبير وجه والدي الغارق في الحزن، ثقل الموضوع الرابض كأنه ضباب كثيف معلق في هواء الغرفة، بلزوجة المادة المليئة بالدماء التي يقسر هو نفسه على قراءتها.
لم أعرف كيف أتعدى اللحظة، كيف أريحه منها، فتركت نفسي معه متجمدة تماماً فيها.
لا أعرف لماذا ألح هذا الموضوع على والدي في ذلك اليوم تحديداً، وما الذي جعله مُصِرا على سماع قصة عبدالله الرضيع، المؤلمة جداً، مقروءة بصوت عال، كأنه يريد أن يُثَبت الألم في جوف نفسه، كأنه لا يريد أن ينسى اللحظة بتأثيرها، كأنه يمد يده إلى عمق التاريخ، إلى هذا الطفل المغدور، فيغسل بدمائه هذا الطريق الطويل البشع من قتل الأطفال والتنكيل بهم في صراعات الكبار السياسية.
سيقولون إن منطلقاتك مذهبية يا بابا، وسيقولون إن مقالي “صفوي” الروح والهوى، وأنا وأنت نعلم، كيف جمعتنا ساعات الظهر الحزينة تلك، أنا وأنت وعبدالله الرضيع ومحمد الدرة وإيلان الكردي ودموعنا، نبكي كل الأطفال، من سبقوا عبدالله ومن لحقوه، من تساقطوا على أرض فلسطين كما الدرة، من يرقدون الآن في قعر البحر المتوسط تشابهاً مع مصير إيلان.
نعاتب أنفسنا، نحاسب سكوتنا، نحلم ونخطط ونحن نعلم مثالية المخططات واستحالة الأحلام، نؤكد لبعضنا البعض لأننا نؤمن أن كل الأهداف العظيمة بدأت بحلم مستحيل، ذُرِفت من أجله الدموع، وعُصرت من أجله القلوب، ولربما تمناه أب وابنته وطفل مغدور من عمق التاريخ.