“في ماضي منيح بس مضى”
حين تكبر النساء المشهورات، خصوصاً الفنانات منهن واللواتي يشكل الجمال والمظهر جزء من هويتهن، يصبحن مطالبات بالاختفاء، بالتنحي عن الحياة العامة وتجنيب الجماهير مواجهة فعل الزمن على الوجوه والأجساد التي طالما بدت وكأنها عصية على الحالة البيولوجية التي يمر بها بقية البشر “العاديين”. يتبين ذلك من حالة الهوس العام بصور “قبل وبعد” التي يبذل أصحابها جهداً في تشكيلها، باحثين عن أجمل صور مرحلة الشباب للفنانات الجميلات ومجاورينها لأسوء اللقطات من مراحلهن العمرية المتقدمة. لطالما بدا لي هذا الفعل، التمعن في مشاهدة هذه الصور اللتي سافر بينها الزمن حثيثاً وطويلاً، نوع من تعذيب الذات وذلك بقسر النفس على مواجهة حقيقة جمال البدايات وركود النهايات. أم تراه فعل يرمي لمواساة الذات وذلك بتأكيد مرور قطار الزمن السريع الرهيب حتى على أجمل و”أعصى” البشر وتحويلهم من أيقونات جمالية إلى مجرد بشر عاديين مسنين مما يهون علينا القادم الذي لا مفر منه؟ إذا كان الزمن قادر على فاتن حمامة مثلاً، ألن يقدر علينا نحن نساء الشارع العاديات؟
وهكذا انقلبت الدنيا بعد أن نشرت ابنة فيروز، ريما، صورة لها مع أمها التي بدت ولأول مرة مجرد امرأة عادية متقدمة في السن. ما زاد هذا الحدث اشتعالاً هو أن فيروز غير معتادة على الظهور العام المتبسط لجمهورها، فهي نادرة الظهور الشخصي، كل الصور التي نعرفها لها مرسومة مخططة، إما مأخوذة في حفل أو في جلسات تصوير معدة مسبقاً. وعلى الرغم من أن هذا البعد و”الجمود” كانا محط انتقاد الناس سابقاً، إلا أن توقيت كسرهما بدا وأنه أتى متأخراً، في وقت لا يود الناس أن يواجهوا فيه التغيير الذي رسمه الزمن على فيروز وبالتالي على الدنيا بأكملها، فهذه مواجهة تستدعي الفهم التام لأن القطار الذي مر على فيروز قادم لهم وباتجاههم، وتلك فكرة قاسية ومرعبة في ذات الوقت. يقول المفكر الراحل كريستوفر هيتشينغ أن أكثر ما يعذب البشر هو ليس فكرة الفناء بحد ذاتها، ولكن فكرة أن الآخرين سيستمرون في الحياة بدونهم. ترى هل صور المسنات من الفنانات معلقة على مدخل النفق المعتم لهذه الفكرة الطويلة المظلمة؟
ولقد كتبت نغم شرف على موقع رصيف22 في مقال لها بعنوان “الجمهور والأسطورة…فيروز بين الجمال والقبح” قائلة
ربّما من المؤلم ومن الغرابة أن نرى فنّانة نحبّها تصير امرأة عجوزًا. ربّما السنوات التي مرّت عليها وعلى شكلها تذكّرنا أنها تمر علينا أيضًا. وأن صورتها التي ظهرت علينا في طفولتنا لم تعد موجودة، وبالتالي طفولتنا نحن ذهبت.
إلا أن شرف تؤكد في مقالها كذلك أن “هذه الانتقادات لا تطال إلا الفنانات، فصباح فخري حين تعرض للانتقاد، كان النقد موجها نحو أدائه وتاريخه الفني وليس شكله، وبالتالي لم تتم محاسبته بحسب معايير الجمال مثلما يحصل للفتيات والنساء ابتداءًا من الجسد وصولًا إلى ما يجب قوله أو فعله”. لماذا يا ترى تبقى مسؤولية محاربة الزمن عبئاً على الأنثى، فيم الذكر لا يزيده الزمن سوى هيبة ووقاراً وأحيانأً وسامة إضافية؟ لماذا هي الأنثى الموعودة بهذه المعركة الخاسرة لا محالة، فيم الذكر محمود لتجنب هذه المعركة بأكملها بل ويزيده احتراماً إن تواءم مع تداعيات الزمن تاركاً خلفه صراع طواحين الهواء هذا؟ وهل فعل الزمن أصلاً هو جريمة تستحق الحرب، وهل هي جريمة موجهة ضد النساء تحديداً؟
في محيطنا الخليجي حين يود رجلاً إهانة امرأة أو تحجيمها على الملأ، فإنه عادة ما يدعوها “يا العجوز” وكأنها متهمة بمخالفة قواعد الأنوثة التي تستوجب عليها أن تبقى شابة طوال العمر. في تجربتي الخاصة حين أكتب على تويتر رأي مخالف للرأي العام، خصوصاً إذا كان رأي متعلق بقضايا المرأة، سريعاً ما تأتي التعليقات “اسكتي يا العجوز” وكأن الزمن اتخذ اجراءاً ضدي تحديداً كامرأة بسبب من رأيي. في إحدى المرات رددت أتساءل “أنتم تعتقدون كلمة عجوز إهانة؟ هو خطأ أنا ارتكبته؟ أنا أتقدم في العمر مثل كل البشر، عمري 47 وسنة ميلادي في البايو، فما المشكلة؟ وما علاقة كوني عجوز أو شابة بالقضايا التي نتكلم عنها؟ منطقياً لماذا تعتقدون أن وصف المرأة بالتقدم بالعمر إهانة؟” (كتبت هذه التغريدة في 11 أغسطس 2019 أي قبل سنتين، اليوم عمري 49). بعد هذه التغريدة راجعت كل ما آتيه أنا لأقاوم الزمن في معركة أعرف تماماً أنني خاسرتها لا محالة، في حين يغوص زوجي وثيراً في راحة تقدمه بالعمر بوقار تناثر الشعر الأبيض في شعره الأسود ودقة الخطوط الرقيقة التي ترسم جمالاً إضافياً حول حول عينيه، لماذا أعذب نفسي دخولاً في معركة أعلم أنني لن أربحها؟
أنا في النهاية امرأة مغمورة، أسمع تعليقاً هنا أو آخر هناك، اقرأ هجوماً عمرياً عرضياً بين حين وآخر دون أن يشكل ذلك جزء كبير من هويتي، ومع ذلك، تستوقفني هذه التعليقات وتذكرني بمرور الزمن حين أنساه وتحذرني من العدو باتجاه الفناء وكأنه قدري أنا دون غيري من البشر. ترى إذا كنت أنا وغيري من النساء العاديات نذهب لهذه الفكرة العميقة بسبب من التعليقات الساذجة على أشكالنا، فكيف تتعامل الفنانات مع هذا العبئ المتراكم: عبئ التقدم بالعمر، عبئ وجوب مكافحة التقدم في العمر، عبئ وجوب خداع الناس بأن الزمن لا يمر عندهن والعمر لا يتقدم بهن، عبئ ضرورة الظهور العام بأقصى صور الكمال الممكنة تخفياً عن أفعال الزمن، عبئ التعامل النفسي مع واجب التخفي المستمر هذا، ثم عبئ مواجهة أقسى فكرة بشرية وجودية بمفردهن وبحساب قاس ومحاكمة مروعة من العامة؟
كلنا نحاكم بعضنا البعض، نتسارع حين نلتقي بعد غياب أن ها هو الزمن قد بدا على وجه هذه أو رسم خطوطه على جسد تلك، وننسى أن ذات الزمن لابد أنه مر علينا وترك لنا من أثره الشيئ الكثير. ورغم هذه التجارب المتكررة لنا كنساء التي تجعل “المعايرة معتادة”، إلا أنني لا أكاد أتخيل أن أقف في معركة كهذه وحيدة أمام جيش جرار، لا يحاكمني فقط على “جريمة” لم أرتكبها ولا يد لي في أحداثها التي تمر عليهم كما تمر علي، ولكنهم كذلك يطالبونني بأن أفوز في معركة هي ببساطة مستحيلة، وهي بمنطقية غير ضرورية، وهي بعدالة غير مستحقة. الفنانات يكبرن كما نكبر نحن، وهن يستحققن أن يتقدمن مريحاً بالعمر دون محاكمات أو مطالبات تعجيزية أو معايرة مخزية. وكما قالت شرف في مقالها “فيروز تبتسم وهذا أمر كاف” وهل أجمل من أن أيقونة في الخامسة والثمانين من عمرها قد قررت إبان المعاناة الحارقة في بلدها وفي عز أزمة وبائية عالمية أن تظهر في صورة تبديها بصحة جيدة وابتسامة رقيقة؟ أليس في ذلك أمل “أوقات بيرجع من شي حنين، لحظات ت يخفف زعل؟”