في فوائد الوقاحة
كتب ديفيد بروكس في 8 يناير من هذه السنة في النيويورك تايمز مقالاً بعنوان “I Am Not Charlie Hebedo” أو “أنا لست تشارلي إيبدو” ينتقد من خلاله “الفزعة” الأميركية تجاه الفرنسيين في مصابهم في حين أن حرية الرأي مخنوقة في أميركا، بحسب عدد من الأمثلة التي ضربها الكاتب في المقال، مما يجعل الموقف الأميركي تجاه فرنسا، في رأيه والذي أوافقه فيه، موقف منافق وغير متوافق مع الواقع الأميركي الداخلي.
المهم في المقال هو نصفه الثاني الذي ينطبق على واقعنا العربي، ولربما الكويتي تحديداً ومؤخراً بعد حملة الاعتقالات المتكررة لأصحاب التغريدات “الاستشكالية”، السياسية منها أو الدينية، حيث يقول الكاتب فيه:
“لربما بدأنا بهذه الطريقة، عندما كنت في الثالثة عشرة من عمرك كنت تبدو أكثر جرأة واستفزازية لأن “epater le bourgeoisie” تضع إصبعك في عين السلطة، لأن تسخر من المعتقدات الدينية للآخرين.
ولكن بعد مدة يبدو كل ذلك صبيانياً، يتجه معظمنا باتجاه آراء أكثر تعقيدا حول الواقع، وآراء أكثر تسامحاً تجاه الآخرين، (تصبح السخرية أقل متعة في حين تصبح أكثر وعياً بسخافتك الشخصية المتكررة). يحاول معظمنا إظهار القليل من الاحترام تجاه الأشخاص أصحاب المعتقدات والإيمانيات المختلفة، ونحاول نحن فعلياً بدء الحوارات بالاستماع عوضاً عن الإهانة.
إلا أنه وفي الوقت ذاته يعرف معظمنا أن متسببي الإثارة وغيرهم من الرموز الغريبة يقومون بأدوار عامة مفيدة، فالساخرون والمتهكمون يكشفون عن ضعفنا وغرورنا عندما نشعر بالكِبر، إنهم يخرقون الانتفاخ الشخصي للناجحين، فهم يوازنون عدم التكافؤ الاجتماعي بأن يهبطوا بالأقوياء الجبارين إلى الأسفل، وعندما يكون هؤلاء مؤثرين فإنهم يساعدوننا على مواجهة نقاط ضعفنا بشكل مجتمعي، حيث إن الضحك هو أحد أهم التجارب التي تربط بعض الناس ببعض.
إضافة إلى ذلك، فإن متسببي الإثارة والساخرين يكشفون غباء المتطرفين، والمتطرفون هم هؤلاء الأشخاص الذين يأخذون كل معنى بشكل حرفي، وهم غير قادرين على تعددية الآراء، وغير قادرين على رؤية أنه إذا كان دينهم ربما يستحق أعلى درجات التقديس، فإنها حقيقة كذلك أن معظم الأديان هي نوعاً ما غريبة الأطوار، ويميط الساخرون اللثام عن هؤلاء غير القادرين على الضحك على أنفسهم في حين يعلم البقية الباقية منا أنه لربما يجب علينا أن نفعل.
باختصار، بينما نحن نفكر في متسببي الإثارة والمتهكمين، فنحن نرغب في أن نحافظ على معايير الكياسة والاحترام كما، في ذات الوقت، نفسح المجال لهؤلاء الأشخاص المبدعين والمتحدين الذين يخلون من الذوق والأدب.
إذا ما حاولت تحقيق هذه الموازنة الدقيقة عن طريق القانون وسن قواعد الخطابة ومنع المتحدثين، فستنتهي إلى رقابة فظة وحوار مخنوق، إنه تقريباً دائماً ما يكون من الخطأ محاولة قمع الحديث أو سن قواعد للحوار أو إقصاء للمتحدثين.
من حسن الحظ فإن الآداب الاجتماعية هي أكثر طواعية وليناً عنها من القوانين والقواعد، لقد حافظت معظم المجتمعات على مستويات من الكياسة والاحترام عندما أبقت السبل مفتوحة لخفيفي الظل هؤلاء، غير المهذبين والعدوانيين الوقحين.
في معظم المجتمعات هناك طاولة للكبار وطاولة للصغار، والأشخاص الذين يقرؤون اللوموند أو الجرائد الناطقة باسم المؤسسة يجلسون على طاولة الكبار، والمهرجون الحمقى والأشخاص أمثال آن كولتر وبيل ميهر يجلسون على طاولة الصغار، لا يُعطى هؤلاء الاحترام الكامل، إلا أنه يتم الاستماع إليهم لأنه ومن خلال أسلوبهم الصاروخي المتخبط يقولون أحياناً أشياء ضرورية لا يقولها أحد بخلافهم.
إن المجتمعات الصحية، بتعبير آخر، لا تقمع الحديث، إلا أنهم يوعزون مواقف مختلفة تجاه أنواع مختلفة من الناس، ويتم الإنصات للباحثين الحكيمين المهذبين بأعلى درجات الاحترام، ويتم الإنصات للساخرين بشبه احترام يشوبه شيء من الارتباك، ويتم الإنصات للعنصريين ومعادي السامية من خلال مصفاة من الخزي وعدم الاحترام. الأشخاص الذين يرغبون في أن يستمع الآخرون إليهم بانتباه يتوجب عليهم أن يجنوا ذلك من خلال سلوكهم.
إن المذبحة في “تشارلي إيبدو” يجب أن تكون مناسبة لإنهاء قواعد الخطاب، كما يجب أن تذكرنا بأن نكون متسامحين قانونياً تجاه الأصوات المهينة، حتى ونحن نمارس التمييز الاجتماعي ضدهم”. (انتهى… الترجمة لي مع الاعتذار عن جفافها).
كل من يكتب كلمة ليست اتهاماً كاذباً ولا تهديداً حياتياً، يكون كاتب رأي، لربما رأيه رخيص ووقح، لربما رأيه يصليه النار وبئس المعاد، إلا أنه يبقى رأيا يجب التعامل معه بحنكة شديدة سعياً إلى المحافظة على أهم مبادئ البقاء الإنساني: الحرية.
إن إعطاء هذا الإنسان حقه في قول رأيه الوقح الرخيص هو الطريقة الوحيدة التي يضمن بها كل فرد آخر حقه في قول رأيه، علا أو رخص، تأدب أو استوقح، كما أن الرأي الوقح، كما يقول بروكس، يفتح الأعين أحياناً ويستفز الوعي حتى ونحن كارهون لصاحبه ومحتقرون له، إلا أن ذلك لا يعني أن صاحب الرأي الوقح الرخيص لا يعاقب، هو في الواقع يعاقب اجتماعياً من خلال نظرة الناس له واستهجانهم لأسلوبه وعدم احترامهم لشخصه، وليس هناك خيار آخر لكي نتمتع بالحرية، فعلينا أن ندفع ثمنها.