في عبثية الحياة وعدميتها: ما بين جثث الأطفال وكريمات الوجه الفاخرة
تصفح انستغرام يبدو وكأنه جولة عبثية في الحياة، حيث تتوالى الصور بكل بشاعاتها وجمالياتها وغراباتها وكأنها تستعرض ليس فقط تناقضات الدنيا ولكن كذلك ظلم قدريتها وعشوائية مقدراتها. في لحظة تظهر صورة لحطام مدرسة مقصوفة في غزة لتتبعها صورة دعائية لمنتجع فاخر في أحد الدول الأوروبية لتليها صورة طفل غزاوي مقطع الأطراف يُنتشل من تحت الأنقاض لتلحقها صورة لشابة جميلة تعلن عن كريم وجه باهظ الثمن ثم فيديو لصغيرة تتجول في مستشفى الشفاء الغزاوي تبحث عن والديها دون أن تعلم أنها فقدت أسرتها بمجملها ثم مجموعة صور لإحدى الصديقات متجولة في دولة شرق أسيوية، وهكذا من لقطة إلى نقيضها ومن حال إلى عكسه، تتوالى الصور والفيديوهات بلمسة من طرف الإصبع معلنة عن غرابة ولامبالاة هذه الدنيا الجاحدة العدمية.
وتوالي الصور والفيديوهات على وسائل التواصل ما هو حقيقة سوى انعكاس لإيقاع حيواتنا الغريب ومشاهد معيشتنا المتناقضة في حد ذاتها. شخصياً أسائل نفسي، كيف يمتلأ صباحي بمشاهد لأطفال مردومين تحت التراب أو مصفوفين بلفافاتهم الدامية على أرضية المستشفى ثم أذهب بعدها بقليل لمقر عملي، أبتسم لزملائي وزميلاتي وأقدم محاضراتي وكأن مئات من الصغار لم يموتو ليلة أمس؟ كيف أعود لأفكر في وجبة غداء لابد أن أعدها ظهراً أو في ورقة يجب أن أنجزها عصراً أو في ارتباط بزيارة لابد أن أحضرها مساءاً، وقد بدأ يومي بعزاء طفولة جمعي، وقد تخللته صور وفيديوهات تضج بالدماء والصرخات والآهات؟ كيف أصحو صباحي وأغسل وجهي وأتناول كوب الشاي وأقضي مشواري وأتبضع حاجتي وهناك طفل يبكي فزع فراق أمه وأبيه وحرقة ألم فقد ساقيه، صغير لا يتعدى الخامسة من عمره؟ في أي بُعد غريب من الأبعاد الضالة للحياة نحن نعيش؟
شيئ ما غير طبيعي، غير مستقيم نفسياً ولا متزن روحياً في إيقاع الحياة الغريب هذا. أن تتوالى صور الحياة بتطرفاتها هذه علينا هكذا، بلا ميزان يزنها وبلا مسطرة ترتبها من الطيب للأطيب ومن البشع للأبشع، ورغم ذلك نحن مستمرين في روتين حياتنا، فهذه بلا شك ظاهرة مرضية بشرية غاية في الغرابة. لا يمكن أن يستوعب العقل “الطبيعي” مشهد هرس الأطفال جمعياً تحت أسمنت أذابته حرارة صاروخ استهدفهم هم، الأطفال تحديداً، بجانب مشهد إعلاني لإعداد وجبة غداء فاخرة أو للترويج لمنتج باذخ، لا يمكن أن تتوازن الروح وهي تتعامل مع مقطع صوتي لصراخ نساء مخيم الشاطئ مستغيثات تحت وقع قصف وحشي همجي لا يرحم إلى جانب مقطع صوتي آخر من حفل غنائي بهيج فقد حضوره من مؤدين ومستمعين القدرة على التواصل العاطفي والحزن الغرائزي تجاه مصاب بني جنسهم. شيء ما غريب ومريض وسام في حيواتنا البشرية التي تترافق جنباً إلى جنب بمتناقضات فاضحة وباعتياد مريض.
نور عاشور، لربما تبلغ السنتين من العمر، نجت من القصف ثلاث مرات. وجهها الصغير مخدوش في كل بقعة منه وجسدها الضعيف متجمد جمود عينيها اللتان تتطلعان باستغراب ورعب تجاه من هم حولها. ورغم أن نور الآن لربما جائعة ومتعبة ومرتعبة بتجاورها وقصف الصواريخ التي تهدد حياتها الرقيقة، ورغم أن نور ما هي سوى واحدة من آلاف الأطفال الغزاويين والتي تعتبر أفضل حظاً لأنها لا تزال فوق الأرض وليس أسفلها، ورغم أن أرض غزة فاضت بالأجساد الصغيرة وغرقت بالدماء الطاهرة لصغار بعد لم يعرفوا من الحياة شيئاً سوى ظلمها وعنفها وبشاعتها، رغم كل ذلك نحن جميعاً مستمرين في الحياة، نأكل ونشرب وننام ونصحو ونتنزه ونشتري، فكيف تستقيم هذه الحياة، وفي أي بعد غرائبي بارد صلد جامد منها نحن نعيش؟