“فلسطين قضية نسوية”
أرسلت قبل أيام تغريدة نقلاً عن موقع Vicearabia تقول إن “فلسطين قضية نسوية” لتتوالى الردود المستنكرة “لحصر” القضية الفلسطينية في الإطار النسوي، في إشارة مهمة وخطرة، في رأيي، إلى الرجعية النقدية والفلسفية التي يعيشها عالمنا العربي.
النسوية كحركة إنسانية ومرجعية نقدية وفلسفية بدأت، كحراك منظم، بسيطة ومباشرة، حراك يستهدف تأمين الحقوق الأساسية الإنسانية ويسعى “لمساواة” المرأة بالرجل اجتماعياً ومدنياً ومواطنياً. إلا أن الحراك النسوي فعلياً لم يبدأ منذ مئتي سنة فقط، الحراك النسوي بدأ مع فجر الحضارة البشرية، حين استتب الأمر للمجتمعات الذكورية الأبوية وتراجعت القوى الأمومية النسوية، وتحولت الآلهة من تلك المؤنثة التي تحاكي مفاهيم الجمال والحب والخير والعطاء إلى أخرى مذكرة تخاطب القوة والصراع والسيطرة والهيمنة ومفهومي الثواب والعقاب. منذ عصر “صافو” الإغريقية التي عاشت 600 سنة قبل الميلاد، تلك الشاعرة العظيمة المهيبة التي ذكرها أفلاطون وغيره من الفلاسفة في كتبهم، والنساء تصارع لتخلق مكاناً لنفسها وتجاهد لتعبيد الطرق للقادمات من بعدها في حراك لم يتوقف ولن يتوقف في يوم.
والحراك النسوي اليوم تمدد وتطور مراحل عديدة وبعيدة عن فجر ظهوره الذي لا نزال نحن نحيا فيه، حيث إننا في عالمنا العربي لا نزال نتكلم عن المرأة وحقوقها بسذاجة ونتداول الموضوع الجندري بلا عمق أو فهم حقيقيين. فاليوم الخطاب النسوي مثلاً لا يستخدم كلمة “مساواة مع الرجل”، ذلك أن الفكر النسوي يرفض تحديد الرجل كوحدى لقياس الحقوق، فنساء اليوم لا تسعى لأن “تتشابه” في أوضاعها الحياتية والرجال وإنما لتحسين الظروف الإنسانية بالعموم وبما يرقى ودرجة التطور الفكري والفلسفي والحقوقي الذي وصلت البشرية إليه.
هذا، ويتحدى الفكر النسوي الحالي كل التقسيمات الجندرية بما فيها هذا التقسيم الأساسي للذكورة والأنوثة، حيث يتناول العديد من المنظرين والمفكرين والفلاسفة فكرة هذا التقسيم الساذج الشطري بالتشكيك معتبرين أن البشر ينقسمون إلى مجموعات جنسية وجندرية متعددة جداً، حتى أنه لربما يكون كل إنسان حالة فسيولوجية وبالتالي جندرية خاصة. يضرب البعض المثل في امرأة فقدت مبايضها ورحمها، هل تبقى أنثى؟ ماذا عن رجل منخفض الهرمونات الذكورية، هل يبقى ذكر؟ وضع كل هذه المتغيرات في تصنيفين أوحدين، بعض هؤلاء المفكرين يقول، هو حالة من التبسيط لا تتواءم وعمق وتعقيد جنسنا البشري.
هذا ويوسع القياديين في الحراك النسوي اليوم دائرة هذا الفكر النضالي، فهو لم يعد أبداً يتوقف عند حقوق المرأة. الحراك النسوي اليوم حراك إنساني، وهو صارم في إنسانيته، بمعنى أن قيمة الإنسان في فلسفته تعلو ما عداها. فأن يدعي أحدهم أنه نسوي التفكير، مناضلاً من أجل حقوق المرأة، ثم يقف متضاداً وحقوق أقلية ما أو عنصرياً تجاه فئة ما، فلا يمكن أبداً اعتبار هذا الشخص نسوي الفكر والنضال، ولن يَنظر إليه أي من منظري وفلاسفة الحراك الحاليين نظرة جيدة أو حتى احترامية، حيث سرعان ما سيخرجونه خارج دائرة النضال النسوي تماماً.
حين وقفت نائبة في مجلس الأمة الكويتي متضادة وحقوق الأجانب وعنصرية اللهجة تجاه المهمشين في الكويت، لم يعنونها أي من الجادات والجادين في الحراك النسوي الكويتي كنسوية مطلقاً، وبل ووقفت أغلبية مؤثرة ضدها حد سقوطها المدوي في الانتخابات اللاحقة.
هذا وفي الانتخابات الأخيرة، لم أصوت أنا شخصياً، ومثلي الكثيرات، لامرأة نظراً لأن إحداهن لم تتناول القضايا الإنسانية الشائكة على الساحة تصدياً بالتحليل والنقاش. لم تمثل أي منهن حراك نسوي حقيقي طبقاً للمفاهيم الحديثة المتطورة له وعليه لم يكن من الممكن إعطاء أي منهن صوت نسوي النزعة. فإذا كنا ننظر لقضايا الكويت الإنسانية على أنها جزء تعريفي لحراكنا النسوي، فكيف نهمل القضية الإنسانية الأقدم والأكبر في تاريخنا شرق الأوسطي؟
لكل ذلك، تعتبر قضية فلسطين قضية نسوية، ذلك أنها قضية إنسانية، في عمقها تقوم على مفاهيم مقاومة الاحتلال العسكري والعنف الجسدي والفكري والتمييز الديني والعرقي. فلسطين قضية نسوية، سوريا قضية نسوية، التشريد الروهينغي قضية نسوية، التمييز الإيغوري قضية نسوية، انعدام الجنسية قضية نسوية، معاناة المكسيكيين على الحدود الأميركية قضية نسوية، تاريخ الأرمن الذي بالكاد بدأ العالم يعترف به قضية نسوية، الجرائم التي ترتكب في اليمن قضية نسوية، الجرائم التي ترتكب بحق الأكراد قضية نسوية، القمع الديني في إيران قضية نسوية، مصاب الإيزيديات والإيزيديين في العراق قضية نسوية، التمييز المذهبي في البحرين وغيرها من دول الخليج قضية نسوية، معاناة العاملات في لبنان والكويت قضية نسوية، معاناة اللاجئين في كل أنحاء العالم قضية نسوية، وهكذا بلا حدود، كل هذه القضايا الإنسانية هي قضايا نسوية، ومن هو غير قادر على استيعاب هذه الفكرة أو يشعر بارتباك لاتساع مجالها أو ثقل حملها، فليتنحى جانباً. ليس الحراك النسوي ونضاله بحراك سهل أو مباشر أو محدود، هو حراك إنساني بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومن لا يراه كذلك، هي أو هو خارج إطاره مباشرة. لكي تكون نسوياً لابد لك أن تكون إنساناً بلا عنصريات أو تمييزات أو أحكام مسبقة. نعم، هو نضال تعجيزي لهذا الحد، وشامل لهذا الحد، وتبقى القضية الفلسطينية قضية نسوية.