فلتحيَ البراغماتية ولتسقط «مواقفكم المبدئية»
فلتذهب المواقف المبدئية السابقة للجحيم ولتحيَ التناقضات، ولتحيَ البرغماتية، لتحيَ مصلحة الشعب الحقيقي وأمن الصغار ونجاة الأرض، ولتكن جميعها فوق كل اعتبار.
لآلاف السنوات كانت «فارس» تشكل قوة عظمى، أحياناً تقدمية تحضرية وأحياناً وحشية استعمارية، وصولاً إلى الألف سنة الأخيرة التي تحولت فيها هذه البقعة إلى منبع ومستقر قراءة شرعية فقهية «استشكالية» متقابلة والسائد السني، وأخيراً استقراراً عند المئتي سنة الأخيرة التي أُعلنت فيها إيران خطراً استراتيجياً قد يتحول (وإن لم يفعل حتى الآن) عسكرياً في المنطقة. سنوات طويلة وإيران تُستخدم مثل «البعبع» في المنطقة، تخيف بها الأنظمة الشعوب من خلال قصص «آخر الليل» المرعبة حول «المد الصفوي» و»الأطماع الشيعية» التي من خلالها ترسب في نفوس هذه الشعوب نفوراً يتعاظم لحد الكراهية وخوفاً يتعاظم لحد الرعب الشديد من كل موقف إيراني واسترابة تامة من كل خطوة له في الساحة الإقليمية.
ومما لا شك فيه أن إيران قوة استراتيجية وعسكرية كبيرة في المنطقة، وهي دولة استخباراتية على أعلى مستوى، لا تنأى عن مد أذرعها المتعددة في حرب سياسية ناعمة على المنطقة المحيطة بها. ومما لا شك فيه أن إيران، بحكومتها الدينية الشمولية، تعد اليوم دولة دكتاتورية عسكرية خطيرة على الداخل الإيراني، كما يتجلى في تعامل الحكومة مع الحريات والأمن الداخليين، خصوصاً هذين الخاصين بالمعارضين والنساء، كما على الخارج المحيط به، كما يتجلى في تدخلات الحكومة المريعة في الداخل السوري واللبناني على سبيل الأمثلة لا الحصر. وعليه، لطالما وقف الإقليم الخليجي بحكوماته وشعوبه، بأغلبية كاسحة سنية وبأقلية شيعية، موقف المستريب من الوجود الإيراني والمعادي له قبل حتى أن يتبدى الشيء الكثير والكبير من أذاه.
وعلى الرغم من أن المنطقة الشرق أوسطية لطالما كان لها عدو رئيسي أكبر يتمثل في الكيان الصهيوني، لا يضاهيه في موقعه المؤذي المكروه أحد، فإن المصالح الدوارة دفعت الحكومات العالمية والمحلية لمحاولة تخليص هذا الكيان من سمعته الملوثة ولتحويله من العدو الأول المحتل الغاصب إلى «حليف متقدم» و«ديمقراطية وحيدة» في المنطقة. وبالطبع، لا بد من ملء فراغ العداء بقوة أخرى، ومن أفضل من إيران مرشح لهذا الدور؟ لقد لعبت «فارس» دور الخطر الأكبر على المنطقة منذ آلاف السنوات، ثم تحولت إلى خطر طائفي في الألف سنة الأخيرة، ثم تبدت كخطر تمددي ديني عسكري إبان بضع مئات السنوات الأخيرة، فمن أفضل منها، بحق أو دونه، مرشح لهذا الدور؟
وعود لذي بدء، فلتذهب المواقف المبدئية السابقة للجحيم ولتحيَ التناقضات، لتحيَ البرغماتية، لتحي مصلحة الشعب الحقيقي وأمن الصغار ونجاة الأرض، ولتكن جميعها فوق كل اعتبار. إيران تشكل خطراً عسكرياً وتهديداً طائفياً وتآمراً استخباراتياً، والمنطقة العربية كلها مستريبة تماماً منها، والمنطقة الخليجية تحديداً نافرة كارهة طائفياً قبل أي سبب أو دافع آخر؟ ليكن. حماس هي ميليشيا متطرفة عسكرية لا تصلح لحكم ولن تحفظ حريات أو حقوقاً؟ ليكن. «حزب الله» له تاريخ مريب بالعموم ومواقف مخزية تحديداً من الداخل السوري تحالفاً مع إيران وهو ميليشيا خطرة أخرى ودولة داخل دولة؟ ليكن. في منطقتنا العربية ليس لدينا خيارات بين جيد وسيئ، إنما خياراتنا هي بين سيئ وأسوأ، واليوم علينا أن نختار جميعاً الطرف المساند لغزة وفلسطين، المستعد لفعل شيء أبعد من الشجب والتنديد، القادر على وضع أمواله وأفعاله محل كلماته، ولو كان أسوأ الأسوأ، ولو كان أخطر الأخطر.
فلتسقط كل الشعارات، ولتذهب إلى الجحيم كل المثل والمواقف المبدئية، ولتحترق كل الصداقات والعداءات التي كانت، ولتختنق كل الطوائف «بحقها» الذي تدعيه و«نصرها الموعودة به»، ولتسقط كل «الأخلاق» المستخدمة اليوم لدفع الشارع لمعاداة مساندي فلسطين ومد يد الصداقة والحوار لأعدائها. وهل ستكون الأخلاق أعز من أجساد آلاف الأطفال المدفونة الآن تحت التراب؟ هل ستطعم المبادئ والمثل أهل غزة المنكوبين، وهل ستحمي المواقف المبدئية الأطفال من اليتم والأمهات والآباء من الثكل؟ فلتذهب كل الشعارات والأخلاقيات والمبادئ والمثل والصدقات والعداءات إلى الجحيم، ولتنجُ غزة، وفداء لعودة ولو طفل واحد من أطفالها الشهداء للحياة. كل شعاراتكم ومبادئكم وتحليلاتكم ومنطقتكم لا تساوي شعرة من رأس طفل مدفون الآن تحت التراب. فيا أهلاً وسهلاً «بالمتطرفين الحمساويين» و»الطائفيين الحزباويين» و»المتآمرين الإيرانيين» وبكل مساند للقضية وكل عامل فاعل من أجلها، وليذهب كل من عداهم إلى أقصى درجات الجحيم.