فصام
التاريخ قصة، وأكذب القصص هي قصة التاريخ، فهي قصة يكتبها الأقوى، هي قصة يكتبها الرجل.
اليوم، يراجع العالم المتقدم قصصه، يحاول أن يبعث فيها شيئا من الحيادية والصدق، وعلى الرغم من الصعوبة البالغة في هذه المهمة، الا أن المحاولات، والأهم التساؤلات، مستمرة حول ما حدث وكيف حدث ولأي طريق سيأخذنا هذا الماضي الذي كان.
أعتقد حقيقة أن أحد أهم أسباب وضعنا المتجمد في العالم العربي الاسلامي هو رفضنا المطلق لرؤية الوجه الآخر للتاريخ، الرواية الأخرى، حيث نكبر جيلا بعد جيل سائرين في خط طويل منتظم يؤمن بقصة واحدة ذات نهاية واحدة، ومن يجرؤ على مساءلتها يعتبر خائنا أو كافرا. ليس باستطاعتنا أن نأخذ خطوة حقيقية للأمام لأننا لا نسمح لأي صوت بيننا أن يراجع خطوات الخلف، أن يسائلها، على الأقل أن يفكر ونفكر معه فيها. نبقى مجمدين حيث نحن لأننا وصلنا إلى مفترق طرق لسنا قادرين على استبيان أفضل ما يستكمله لأننا نرفض مراجعة ذاك الذي أوصلنا اليه.
هل هزيمة 67 هي هزيمة، وهل انتصار 73 هو انتصار؟ كيف تشكلت الدول العربية وتحديدا الخليجية، وكيف وصلت أنظمة الحكم إلى عروشها؟ هل حمى صدام حسين «البوابة الشرقية»، وهل كان هو ضحية الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت ثماني سنوات، أم أننا نقرأ التاريخ بعقلية العرب والفرس التي لا تستطيع أن تخرج من عباءة قبليتها؟ هل زج بإسرائيل في مؤامرة غربية على العالم العربي أم فتحت لها أنظمتنا الباب وبيعت فلسطين بمقابل ولربما من دون مقابل؟ ما هو التاريخ الحقيقي للأسرة العلوية في سوريا؟ ومن هو المسؤول عن المليون شهيد جزائري؟ ماذا حدث في موريتانيا ليجعل قصة العبودية المستمرة فيها إلى اليوم قصة عار ترفض الدولة الاعتراف بها، وفي الوقت ذاته تمنع كل حديث عنها؟
ماذا حدث في مكة في حقبة صدر الإسلام؟ ما هي حقيقة الصراع القبلي في قريش؟ هل كان كبار تلك المدينة أمثال الملقبين بأبي جهل وأبي لهب جهلة حقيرين مستبدين كما يقول التاريخ؟ هل كانت مكة مدينة غائرة في الظلام فعلا أم لها وجه آخر باقتصادها المهم وبترحيبها بالآلهة المختلفة التي كانت منصوبة في الكعبة وقبولها التعددية العبادية لها؟ ما هو تاريخ العبودية في الإسلام؟ كيف ساهمت الغزوات في تدفق سيل العبيد إلى أيادي المسلمين؟ ما هي طبيعة «الفتوحات» الحقيقية، وما مدى اقترابها من فكرة الاحتلال وما مدى دمويتها؟ ما هو تاريخ المرأة في الإسلام؟ كيف تطور وضعها منذ بداية البعثة النبوية؟ ماذا حدث فعلا في عصر الخلفاء الراشدين وفي عصر الدولتين الأموية والعباسية والذي لا يزال ينفث في شعلة خلاف حاد بين المسلمين؟
التساؤلات أعلاه، السياسية والدينية، ليس المقصود منها توجيه أصابع اتهام باتجاه مختلف، في الواقع، المقصود منها قطع كل أصابع الاتهام، ومحاولة الجلوس إلى طاولة تاريخ محايدة، قدر المستطاع، طاولة لا تحاول إظهار مثالية غير موجودة، بل طاولة واقعية تشير إلى بشرية صناع التاريخ وحقيقية أخطائهم وإلزامية زمنهم الذي أجبرهم أحيانا على خيارات ما كنا لنختارها في زمننا هذا.
إن محاولة خبز تاريخنا السياسي في خبزة المظلومية المستمرة يجعلنا وباستمرار نتحرك من منطلق الضحايا، ونتصرف من زاوية المتآمر عليهم، «غير الضالين» بل المساكين المنتظرين لمخلص ينقذهم من طمع الآخرين فيهم واضطهادهم لهم. كما أن استمرارية عجن تاريخنا الديني في عجينة الكمال يتسبب في تكرر حرق خبيزنا الزائف قليل الطحين كثير الماء. وفي حين أننا ننطلق من منطلق الضحايا دائما في كتابة تاريخنا السياسي، إلا أننا دوما ما ننطلق من منطلق الأبطال، أصحاب الحق الأوحد في كتابة التاريخ الديني، فلا نكاد نتبين الحق، ولا نستطيع تفادي الحفر في الطريق، وكيف نتفاداها ونحن لا نعترف بها، وكيف نعبد طريقا نحن موهومون بكماله وتمامه؟
بلوانا تكمن في كتب التاريخ، كتب سياسية تستعرض «مسكنتنا» وكتب دينية تستعرض عظمتنا، وكأننا نعيش بشخصيتين مختلفتين متضادتين. كتبنا السياسية تحتاج لأن تخفف جرعة المظلومية وتبدأ النظر في المسؤولية، وكتبنا الدينية التراثية تحتاج لنفضة قوية عميقة تخفف جرعة الغطرسة وتؤسس لنظرة واقعية.
أنظمتنا العربية هي نتاج تاريخ كتبوه وفرضوه فابتلعناه، ومؤسساتنا الإرهابية هي نتاج تاريخ كتبوه وحرموا مناقشته فعبدناه. داعش لم يبتعد كثيرا عما ورد في الكثير من كتب التراث من كافة الطوائف الإسلامية، وعما نبجل ونمجد من قصص الفتوحات والغزوات، ونظام الأسد لم يتنح كثيرا عما ورد في كتب التاريخ التمجيدية لأبناء استمروا على ما وجد عليه آباؤهم، فمتى تأتي «الصحوة»؟